هذا الباب شاهد

يقولون أن للغياب عتبة كل من يتخطاها يبلغ منتهاه، أولئك القابعون أمام العتبات يراقبون الغائبين بهيبة وصمت.

كم ظللتِ تراقبين العابرين علَّ ملامحي تشق صفوفهم ..علني أعود.

الطريق رغم اتساعه مازال مكتظًا، الوجوه رغم اختلاف ملامحها تحمل الهم ذاته، إشارات المرور المعطلة، الباعة المتجولون في قلب الجولات، المتسولون ، الصور والإعلانات المعلقة في كل مكان مازالوا جميعًا على حالهم.. لم يتغير شيء .

حقيبتي الموسومة بحجوزات المطارات رفيقة عودتي إليك.

أقطع الطرقات يحملني قلقي على جناحيه، كل الأسفلت هنا أبْلَى أحذيتي، أزقة الحارات تعرفني، مسار ذهابي صوب مدرستي يطير بي عاليًا بمطباته المستحدثة.

هناك أصوات تبتلعني من الداخل.. أرفض أن أصدق ما أخبروني إياه.. 

أبلغوني أن الفاصل بين لقيانا يوم واحد..اليوم أنت تغيبين.

غيابك لم يكن حدثًا يهز العالم لكنه بعثر كوني وشظَّاه  ..

هأنذا أعود لمنزلنا ولا ألقاكِ..

باب منزلنا يشتاق لأنفاسكِ، ثقوبه المبعثرة تعانق نظراتكِ، أصابعكِ رسمت منحنياته، تلويحك لي من خلفه جعل له صريرًا يعلو كلما مررت عبره.

باب منزلنا خضبته حناء يديكِ فصار داكنًا بحمرة محببة، حتى رائحته شذابًا صارت وريحانًا.

سألتك في يوم: لم تختبئين خلفه والعالم يتسع أمامه، أومأتِ برأسك ولم تجيبي.

جاراتنا ذكرنك كثيرِا، قلن لي أنك آثرت المكوث حيث كنتِ، لم يطب لك غلق الباب خلفك، أعينهن تشع حينما يحكين عنك: كيف أن باب منزلك يبتسم فاردًا ذراعيه وكيف أنك تمنحينه اتساعًا ودفئًا فيعانقهن قبل أن تفعلي.

انتشرت الأقاويل والشائعات، قالوا بأن لباب منزلك كرامات وقوى خارقة، كل من لمسه نال راحة وسكينة، وكل من دلف عبره سقطت أتراحه جزءًا جزءًا، قالوا  بأنك كنت تتركينه مواربًا مراعاة للطارقين وخوفًا عليه من ألم يعتصره ليلًا من قسوة أيدي العابثين.

هأنذا دلفت منزلنا اليوم ولم أجدك، رأيت بابك واهنًا خائرًا حزينًا، لمسته كما كنت تفعلين لكنه آثر الصمت، لم ينادني كما كان يفعل.

مررت أصابعي خلاله، أحسست بوجود نقش عليه، رأيت وجهك الوضاء، رأيتك تحلقين، كانت لديك أجنحة.

ها هو منزلك لا روح له، تتسلل أشياؤك الصغيرة عبر غرفه، خيوط القش وحبال السلب رسمت أخاديدًا عبر جدرانه.

رائحتك عتقت المكان؛ فأصبح الحي مبخرة كبيرة، زاويتك في البيت أنبتت الشذاب والريحان فقصدنها نساء الحي زينة وحرزًا وهدايا للأمهات الصغيرات. 

لم أدرك أن الأمس كان آخر فرصي ، لم أمرر أصابعي بين خصلات شعرك، لم أخبرك عن أحداث يومي وخططي المستقبلية،  أملت في الغد وبأن لدينا الكثير من الوقت.

هذا الباب شاهد على حبك لي، آثرتِ أن تكوني خلفه العمر كله لكنه اتسع لك يومها، فتح بوابات خفية، منحك أجنحة؛ فحلقتِ بعيدًا، كان يبكيك مثلي.. إني أواسيه الآن وأضمد حزني به ومعه.

بابنا خارت قواه، فقد مفتاحه الوحيد المعلق حول جيدك.

اقتعدت حوش منزلك يا أماه وأقسم أنني أسمع طرقاتك على الباب.. طق طق طق، ثلاث مرات كعدد قراءتك للمعوذتين صباحًا ومساءًا، ثلاث مرات كعدد تكرار جملي عليك حينما ألح بالسؤال وطلب الدعاء.. ثلاث مرات كعدد المرات التي ذرفت فيها دموعي وأنا أنشد على مسامعك قصيدة بدر شاكر السياب:

الباب ما قرعته غير الريح

آه لعل روحا في الرياح

هامت تمر على المرافيء أو محطات القطار

لتسائل الغرباء عني عن غريب أمس راح

يمشي على قدمين و هو اليوم يزحف في انكسار

هي روح أمي هزها الحب العميق

حب الأمومة فهي تبكي

آه يا ولدي البعيد عن الديار

أنا والباب يا أماه نراكِ في أحلامنا ..  تُهدينا مفتاحًا وكرامات وصريرًا يصدره بابنا ليحتويني..