


لا بُد من هدوءٍ خامد بعد التجاوزات الأقسى، لكن لحظة منبثقة من محاجر الصُدف تأتي لتلقي بك في أزمنة ما وراء التشافي.
الحاضر.
اليمن - صنعاء - السابع من نوفمبر ٢٠٢٢.
بعشوائية فتشت بين القنوات عن شيء يثير الاهتمام، وحينما لم تتمكن أي قناة من إثارة طحالي حتى، ظهر طفلٌ لم يتجاوز السابعة من العمر، له بشرة بيضاء مثل لُب جوز الهند وعينان مدورتان كحبتيّ بندق بدت كالخرز الزجاجي وهما مبللتان عن آخرهما. يملك فمًا متقوسًا يُخبر بوضوحٍ عن صاحبه المُصاب بمتلازمة داون.
يبكي الغُلب، والعجز، ولكنه فوق كل شيء كان يبكي عدم الفهم.
ينطق بصوتٍ ملعثم مُحدثًا والدته التي قررت أن تخبر العالم عنه: "لكني لا أفهم! لم أؤذي أحدًا منهم، لمَ آذوني؟ ما الذي فعلته! لماذا فعلوا هذا بي؟"
يهوي السؤال مثل درهمٍ في بئر فارغ داخلي..
لماذا.. لماذا.. لماذا…
تزعق صفارات الإنذار، ذاتُ الصدى يتردد، وأغرق في غياهب السنين نحو ذات السؤال المبحوح.
مضت أعوام مُذ حُشرت تلك الـ "لماذا" في حنجرتي مثل كومة جافة من شعر قِط.
عجيب! كيف لكلمة واحدة أن تصهر الزمن لتجد ذاتك أمام نسختك الأقدم، العارية من الإجابات الشافية، مرتديًا الشفاء، وينسل البرد منها إليك.
الماضي.
اليمن - إب - السادس من يوليو ٢٠٠٦.
اشترى لي والدي بالأمس حذاءً جديدًا من المدينة. إنه لامع، ومرويٌ بالفضي المُقمر. صرتُ موضع حسد أقراني لأيام! وكُنت مزهوة بهذا التفرد الذي -وبطبيعة الحال- لم يَدُم طويلًا بسبب الطرقات التُرابية التي نعبرها كل يوم أنا وقريباتي نحو مدرسة القرية غير البعيدة عن بيتنا الطيني العتيق، والتي التهمت لمعة حذائي الفاتن كما يجب لأي طريق تُرابي أن يفعل.
أُحبطت! لقد تخرشت جوانبه وانطفأت لمعته وبتُ موضع استنقاص؛ لأني لم أتمكن من حمايته كما تفعل الفتيات عادة -كما يزعم الجميع- مع حاجياتهن الجديدة.
والحقيقة هي أنني لم أفهم قط وأنا في السابعة من العُمر كيف تمكنَّ من الحفاظ على كل ما هو جديد، عداي أنا! أليس من الطبيعي أن يبلى الجديد بعد فترة من شرائه؟
كُنت حزينة من الوضع الذي لم يَطُل، والحذاء الذي بلى، والكلمات التي حاولت -ما حاولته- إعادة حجمي لطبيعته بعد حفلة الزهو التي استمرت لأسبوع أو يزيد.
حينها أطلعنا والدي بالخبر القنبلة! الخبر الذي سيعيد نجمي لامعًا في السماء بعد أن تمكنت منه كل الظروف.
"سنرحل إلى المدينة، إلى عدن تحديدًا"
قفزتُ من مكاني صارخة: "أستحلفك بالله، سنذهب حقًا؟ سنرحل إلى هناك؟"
ضحك والدي، فردة فعلي هذه كانت متوقعة نوعًا ما. الجميع يعلم بمدى هوسي بالتجارب الجديدة رغم أني أملُّ عادة بعد فتراتٍ لا تتعدى فترة حماسي حتى.
كان الخبر حقيقي، وقد علم به الجميعُ خلال زمن قياسي. ومن المُراسلة القديرة التي تولت مهمة إبلاغ المنزل والقرية وودتّ لو تُطلع العالم بأكمله لولا أنها لا تستطيع؟
مِسك بالطبع! وكُنت أنا.
مغلفة كلماتي بأكبر قدرٍ ممكن من الاستعلاء بالطبع.
اليمن - عدن - ٢٠٠٦.
انطلقنا في الأسبوع التالي بعد أن استهلكت قصة السفر هذه في التعالي بأكبر قدرٍ ممكن. المدهش أن حماستي لم تخبُ لمدة تجاوزت الشهرين على عكس المتوقع.
أتذكر وصولنا، رائحة البحر اللاذعة، البيت الذي وقعت في غرامه لحظة رؤيته لأنه كان يشبه إلى حدٍ بعيد بيت القط والفأر في كرتوني المفضل. كان مثاليًا، لكن طبقات التراب وأوراق الأشجار التي غطت داخله وخارجه والتي فاقت عددًا كل الطبقات الجوية والتحتية للأرض قد أفسدت يوم والدتي بامتياز؛ لذا أجَّرَ والدي شخصًا ما لتنظيفه، وحين قدم إلى المنزل كان برفقة أخيه الصغير، فصادقت هذا الأخير من فوري، فتعطشي لاكتشاف المكان وساكنيه قد غمرني كُليًا.
وقد رحب "أحمد" بهذه الرفقة متحمسًا أكثر مني حتى.
وبعد نصف ساعة تقريبًا، سألني: تدرسين؟
- سأفعل.
نخر من أنفه وأردف: لا تفعلي.
دُهشت قائلة: لماذا؟!
- المدرسة متعبة، والأطفال هناك يقولون أشياء، أشياء.. سيئة!
- أنت لا تذهب للمدرسة؟
- توقفت منذ مدة.
- محظوووظ! لن يقبل والدي أن أتوقف مهما تبرمتُ من التعب، لكن أمي قالت إن لديهم مثلجات، وأيضًا رفقة تلعب معهم.
- لكن أحدًا لم يصادقني.
- حقًا! ولمَ؟
- لا أدري! قالوا لي كلمات لم أفهمها، وعبسوا في وجهي دومًا.
- ماهي الكلمات؟
- لا أعلم، نسيتها.
- أخبر أبي، سيضربهم لك.
- يفعل!
- بالتأكيد.
لكنه لم يخبر والدي، لا أدري لمَ، لو فعل كان والدي ليساعده بكل تأكيد.
غادر أحمد وأخوه بعد أن صنع هذا الأخير شكلًا للحياة في المنزل، ورضت أمي عنه أخيرًا.
كان لا بد لنا من أن نذهب إلى البحر مرارًا، فرائحته على أطراف المدينة لم تشبع نهمي نحوه، وقد فعلنا. وأدركت معنى أن يغلفني الماء ويداعب روحي لأول مرة في حياتي. عرجنا على الصهاريج، والكنيسة البريطانية، استمتعنا ولعبنا كثيرًا في الملاهي والمنتزهات العامة، جربت العديد من الأشياء الجديدة عليَّ وتلك كانت مُتعتي العُظمى في الحياة. كانت أيامًا براقة بكل ما تحمله الكلمة من لمعان.
لكن وهج الأيام انحسر، وكل جمال بها تغير، حين بدأت المدرسة.




اعتدتُ المشي على طرقاتٍ غير معبدة نحو مدرسة القرية، وحين علمت بخبر قدومنا إلى هنا حلمت بطريق معبدٌ بالأسفلت والحجارة المرصعة بإتقان كي لا تصاب أحذيتي الجديدة بمكروه في المستقبل.
لكن آمالي تبخرت؛ فالطريق كان تُرابيًا، وكي يزداد الأمر سوءًا كانت شمس عدن غاضبة على الدوام!
في يومي الأول لم أذهب برفقة أحد، فقد أكدت لهم أني كبيرة بما يكفي للذهاب بمفردي. ارتديتُ زيًا مدرسيًا أبيض اللون، ولم أدرِ وقتها لمَ كان أبيضًا؛ لكني عرفت فيما بعد بأن اللون الأبيض لا يمتص حرارة الشمس وهذا قد يقلل من سخونة الجو الذي لم يخفف من وطأته أبيضٌ أو غيره للمعلومية. ففتاة إبٍ الباردة قد صُهرت جلدتها مخلفة حروق شمس لم تخفها وصفاتٌ أو مراهم، وفي أول ثلاثة أيام فحسب.
حين وصلت إلى المدرسة هالني البناء والرسومات على الجدران، والباحة الواسعة، والشجيرات الموزعة بانتظام في الحديقة الخلفية.. الاختلاف كان جذريًا، والمقارنة التي أجراها عقلي بشكل عفوي كانت جائرة.
سألت معلمة كانت تقف في الساحة عن مكان الصف الذي سأدرس به، وحين اهتديتُ له جلستُ بكل ثقة في المقدمة، وهنا بدأت المشاكل!
تقدمت فتاة تبعتها ثلاث أُخريات، جميعهن يفُقنني عرضًا وطولًا.
نطقت زعيمة العصابة:
"ما شاء الله، ما شاء الله ومن سمح لكِ بالجلوس هنا؟"
"أنا سمحت لنفسي" قلتها بعفوية، لا تحدٍ كما قد تبدو.. لكن ما قلته لم يلفت الآنسة الواقفة أمامي، بل كيف قُلته.
انحنت حتى صارت بمستوى نظري وهمست:
"تتحدثين كعجلٍ بري أخرق! من أين أتيتِ؟ من الشمال؟ هذا ظاهرٌ من تسريحة شعرك الغبية، وحذائكِ المتسخ. والآن يا عود الثقاب حركي جسدك الهزيل نحو آخر الصف، وإن وضعتِ يدك على طاولة غير الطاولة التي تجلسين عليها سأنتف شعرك وأُعيد تسريحه كما يجب له أن يكون، فهمتِ؟".
والحقيقة أني لم أفعل! فلهجتها كانت جنوبيّة حادة، والشهران اللذان قضيتهما هناك لم يساعداني على الإطلاق. لكني عرفت على الأقل أني لست القوية هنا، لذا أخذت حقيبتي وتوجهت نحو آخر الصف، ولم أتوقع قط أن تراقبني تلك البومة طوال اليوم حرفيًا لتتأكد من أن يدي لا تستقر على طاولة هي ليست لها حتى!
توالى الأذى، وكان معظمه لفظي..هذا ما عناه أحمد إذًا!
"دحباشية" رغم أني لم أفهم قط كيف صار اسمُ شخصية تلفزيونية لفظة عنصرية!
"مُتدينة" أيضًا، لا أفهم حتى يومنا هذا كيف استُخدمت هذه الكلمة كإهانة! حتى أن الطريقة اللزجة التي قيلت بها جعلتها موضع كُرهٍ عندي لفتراتٍ طويلة بعد مغادرتي عدن بسنوات.
هزيلة، غبية، قروية، متسخة، وغيرها وغيرها وغيرها.
أقدامٌ تعترض طريقي فأتعثر، ويتحول بياض ثوبي لبني داكن ملطخ بقطراتٍ من الزهري الفاتح. أقلامٌ تختفي من يديّ وتستقرُ بأياديهم..
وجوه تضحك، رغم أنها لم تشارك في الأذى مباشرة، إلا أنها تضحك.. وهذا الفعل وحده نخر كل جدران الضوء داخل روحي.
وجوه صامتة، والتي شاركت بصمتها ذاك.
وأخيرًا أنا المتخشبة كأني في كابوس جاثومي، ومقاومتي الضئيلة بين الفينة والأُخرى لم تزد الطين إلا بلّة.
وكل ما دار في رأسي كان "لماذا؟!"
تمنيتُ العودة للقرية وليتفتت حذائي الفضي إلى مليون قطعة. تمنيتها بحق حتى لو كنت سأعتذر من كل الفتيات اللواتي تعاليتُ عليهن. وعدت نفسي أني لن أفعلها مجددًا مهما كانت فساتيني جميلة وأشيائي براقة وجديدة.. حتى لو سافرت إلى مدن بهيجة، لن أفعلها أبدًا.
فتحت القرآن الكريم مرارًا -كعادتنا في القرية- علّه يخبرني بما يجب عليّ أن أفعله، لكن جدي لم يكن هناك ليخبرني بما يقصد. كم كرهت عدم علمي بشيء، كرهت عجزي وحداثة سني وطفولتي، كل شيء حولي كان مقيتًا وفوق تحملي بمراحل!
في البداية لم أخبر أحدًا، خشيت أن لا يرافقني أحد لأني واشية، ولكن بعد مدة تجاوزت الشهرين تيقنتُ أن ما من بُدٍ من إطلاع والديّ بالأمر وليحدث ما يحدث، إن لم يرافقني أحدٌ بعدها لا بأس، فلا أحد بالأصل فعل.
ليلة ما فعلت، حضرَ والدي إلى المدرسة في اليوم التالي، وعلى عكس كل السيناريوهات التي حِكتها في مخيلتي، بدايةً من تجاهل والديّ إلى لا مبالاة المدرسين لو حضر، وصولًا لخوفي الأكبر؛ عدم مصادقة أحد لي.. لأن ما حدث كان أن تلاشى الأمر وكأنه لم يكُن.
مرت الأيام سريعًا، وفي النصف الآخر من العام رافقت فتاتين؛ كُنّ ودوداتٍ، لكني لم آمن، لذا بقيت وحيدة في غالب الأحيان.
لكن عدن امتلكت جوانبًا مُضيئة عدا عن بحرها الفتّان؛ فقد كانت هُناك أسراب الإوز التي حلَّقت دومًا فوق جسرٍ لم أتمكن من حفظ اسمه مهما حاولت.
غادرت عدن بعد سنتين، غير أنها لم تغادرني إلا بعد سبعة عشر عامًا وألف كتاب. وها أنا اليوم أقف أمام ذاتي، وتلك الـ "لماذا"، وعلى خوفي وخوفها وشاح الإجابات.
أحميها علّ الأمن الذي ستشعرُ به يصلني فأطمئن.
كرهي لجهلي وقتها حولني فيما بعد لدودة كتب فعلية.
الكتب أعادت اتزاني، وملأت شقوق روحي بالنور مجددًا. أجابت عن تلك "الـ لماذا" التي التصقت تحت جلدي لسنوات، دَعَكتها بالإجابات حتى تفسخت وتحللت تمامًا.
لقد فعلوا ما فعلوه لأنهم بشر، بكل بساطة وتعقيد، بشر بعقولٍ إسفنجية متهيئة للامتصاص طالما أن الحنفيات من حولها مفتوحة وتمدها بالماء، تسحب كل ما تفكر به ممن هم حولها من أهل والجيران، في المدرسة، وأي مكان تجلس فيه، العذبُ منه والعكر، وحين تعتقد أنها تشبعت، تعصرُ مياهها في كل مكان نلجُه. بعدها يأتي دور الصغار -الإسفنجاتُ الجديدة- وهكذا دواليك. هكذا وصل العكر لأحمد، ولي، وروزا باركس، ومالكوم اكس، وكونتا كنتي، وقبائل الهوتو، وغيرنا وغيرنا وغيرنا.. دائرة مفرغة لم تتوقف منذ آلاف السنين.
بعض الإسفنجات تخلصت من النفايات -وهُنْ كُثر- وبعضها الآخر دغدغتها نشوة العُلو الزائف، لذا ظنّت حُمقًا أنها ترى العالم من أعلى، ولها الحق في عصرِ أوساخها على بني البشر، وهذه الأقذر من بين الجميع.
أخيرًا، هناك فئة البراميل التي تُعبأ بما يشاء لها، لا بما تشاء هي، بلا هدى، هذه البراميل تسببت بتشويه ملامح الطفلة داخلي.
كانوا أطفالًا تتشربُ جُل ما يرشحُ من الإسفنجة الروحية التي بدورها لو حدثت ذاتها عن الأسباب التي تدفعها لأذية شخص لم تتفاعل معه قط في حياتها لعرفت أن الحشو الذي تعرضت له قد نحر حريتها المزعومة وداس على أوداجها، لعرفت وقتها بأن الغريب من ملأها بما يشاء، وأن لو كان الأمر عائدًا لها، ربما ما تعرضتُ للعنصرية، ربما ما تعرض أحدٌ لها بالمطلق.
رويدًا رويدًا، طفوتُ من العُمق القديم الذي جرني الطفل إليه، شعرت بالحياة تُبث فيّ برويّة بدءًا من أطرافي ومحجريّ، وصولًا لجذعي ورأسي. دبّ فيّ الدفء واهبًا الواقع روحي مجددًا، كأني استيقظت من كابوس جاثومي سلبني الحُرية لدقائق، وكل ما أمكنني فعله هو مداراته حتى يشبع مني وينتهي، وحين فعل تمامًا، كُل ما أردتُه بكل ذرة فيّ هو أن أعصر ذاك الصغير بين ذراعيّ وكأني بهذا الفعل أحمي طفلة داخلي ما زالت تستجلبني -رغم حصولها على الإجابات- كلما وخزت ذكرى مسننة أمنها وغاصت بها في طوارق الماضي.
-تمت-