الذات المنسية بين الجموع

لأول مرة في مسيرتها الدراسية، استيقظت دولة بكل سعادة ونشاط على صوت أختها وهي تقول لها: "هيا، قده وقت!"، تذكرت بأن اليوم هو ختام أول عام دراسي لها، شعرت بالسعادة مع صوت أختها الكبرى وهي تنادي عليها وعلى بقية أخواتها لتناول وجبة الفطور ومناولة العاملين في مزرعتهم حصتهم من الوجبة الصباحية. كان العمل كل يوم ينقسم بين الأخوات الست كالتالي: الفطور للعمال وسقاية الماشية وإشعال الصُعد وعمل الخبز، وهكذا دواليك.

لكن الصغيرة قامت من فراشها بكامل حماسها لتحضر ثيابها الجديدة التي أعطاها خالها من بلاد الغربة، والتي ساعدتها أختها اليوم السابق في تنسيقها. كان اللباس منسقًا بعناية، عبارة عن بنطال قصير ومعطف طويل وقبعة جميلة من القش. بعد ذلك قامت الأخت بعكف شعر دولة القصير لتبدو أكثر فتيات القرية أناقة وأغربهن شكلًا.

نزلت تجري وهي تحصي الدرج، واحد، اثنان، ثلاثة..

لتجلس بين أخواتها الست

 قدمت لهن أختهن الفطور

كانت دولة الصغيرة في غاية السعادة، فاليوم هو حفل نهاية السنة الأولى لها في المدرسة، وكما أخبرها والدها أنهم سيقومون بتكريم جميع طلاب الصف الأول، كما أنها كانت واثقة أنه على الرغم من إهمالها، إلا أنها ستكون على الأقل الطالبة المثالية، وذلك بسبب هدوئها في الصف وعدم إثارتها للفوضى وكونها الأمهر بين الطالبات في التهجئة.

أما أختها التي كانت في الإعدادية، فقد حصلت على المركز الأول كالعادة. وبالطبع، فقد كانت تحاول مع الصغيرة لتجتهد. تسبب إلحاح المعلمة المستمر لها واستدعاؤها كل حينٍ بحالة إزعاج لها، وكان رسوب الصغيرة في مادة الرياضيات هو الهاجس المؤذي طوال أيام السنة الدراسية وهي تذهب وتأتي كل يوم بين صفها وبين إدارة المعلمات، لتسمع سيمفونية معلمة الصف الأول المتكررة: "معقول هذه أختك؟ فرق كبير بينك أنتِ وياها!"، ولكن كل هذه المحاولات لم تجدِ نفعًا. وصلت الشكوى للأم، فذهبت الأم للمدرسة. وكعادة الأمهات في قريتنا: "ماعليش يا أستاذة كوني اضربيها، أما احنا ماعد طقنا، كل ما أختها تقول لها ذاكري رياضيات، تقلبها مناحة."

وأخيرًا صرن الأختين في كامل أناقتهما، غادرتا البيت وبالطبع لم ينسين أن يخبرن أختهن الكبرى أن لا تنسى أن توقظ أمهن للحفلة المدرسية، وأن تحاول أن تأتي سريعًا من أجل أن تكون في المقدمة. 

 أخذتا معهما الكعكة المغطاة بالشوكولاتة التي بذلتا كل مصروفهما الأسبوعي من أجل مكوناتها، وعلبتا مشروبات غازية، وما هي إلا دقائق معدودة حتى وصلت الفتاتان المدرسة. 

كانت ساحة المدرسة مزينة بالألوان، الأناشيد تصدح، والفتيات الصغيرات بفساتينهن المزركشة. وبما أن فتاتنا كانت هي الوحيدة بالبنطال القصير والقبعة وشعرها البني القصير،  

فعندما وصلت الفتاة تركتها أختها في الكراسي الخاصة بالحفل وذهبت هي إلى "بروفة الحفل" مع بنات فصلها

كانت الفتيات يأتين ليسألن الطفلة من هي وما اسمها وغيرها من التفاصيل، والطفلة الخجولة تجيب بهدوء 

وأخيرًا بدأ الحفل وبدأت الأمهات بالحضور

ثم بدأ التكريم من الصف العاشر، وكن الأمهات يتفاخرن بهداياهن، وأسمع بعضهن يخبرن أمي هذه بنتي وكيف اجتهدت من أجل الحصول على المركز والتكريم.

وهكذا بدأ التكريم من الصف العاشر، حيث كانت مدارس الفتيات في قرية دولة للصف العاشر ومن ثم تتوقف الفتاة عن الدراسة في هذه المرحلة بسبب عدم توفر الفصول والكادر التعليمي، بل وأحيانًا تتوقف الفتيات في مرحلة الصف السادس.

وبينما بدأ إعلان أسماء أوائل الصف العاشر ثم صفوف الإعدادية والتي من بينهن صف أخت دولة، والتي سرعان ما سمعن الأمهات اسمها حتى بدأن بالمباركات للأم بقولهن: "ماشاء الله على بناتش أما هن ذكيات."

وأخيرًا وصل الدور للصف الأول الابتدائي 

وبدأ التكريم: الترتيب الأول فلانة وفلانة، وهكذا حتى غاب الاسم الذي تترقب له الصغيرة التي كانت بجانب أمها متوترة وتحاول ألا يؤثر ذلك الانتظار على شكل تسريحة شعرها حتى يحين دورها في التكريم، وهكذا بدأ تكريم الأسماء الأول، الثاني الرابع... إلى الترتيب العاشر ثم الطالبة المثالية! ويا لخيبة الأمل اسم دولة غاب! غاب نهائيًا ولم يظهر.

وما إن انتهى الحفل التكريمي حتى بدأن النسوة اللواتي يراقبن العالم من خلال بناتهن بسؤال أمها: "معقول ما جات بنتك ولا ترتيب؟! يووه أما هي مش مثل خواتها".   

كانت دولة تتحرك مثل بندول ساعة، توزع حزنها وترمق هدايا التكريم وتراقب عناق الأمهات لبناتهن واحتضان الأخوات، بحزن تتأمل مشهد الساحة المزين، تنظر في البعيد لعل أحدًا يأتي ليخبرها أن هنالك خطأ ما، وأن نسيان اسمها كان محض خطأ.

مر ذلك اليوم، ومرت الأيام والسنين، كبرت الصغيرة وما زالت منذ ذلك الحين تبحث عن اسمها المنسي ولم تجده.

ربما شعرت أن هناك شيئًا في داخلها قد جُرح، ربما كبرياؤها، من يواسيها في هذا النسيان المر الذي قمع بداخلها الوجود.

كبرت دولة ومرت السنوات وهي تشعر أن هناك عيونا في الفراغ تراقبها، ولتتغلب على هذا الشعور حاولت مصاحبة نفسها وجدران الغرفة والطرقات والقصائد والكتب، شاهدت الشروق والغروب وتعرفت على أناس يستحقون ولا يستحقون، وبرغم هذا كله كانت تسقط جاثية أمام هذه الهالة الضبابية، الخوف من فقدان اسمها بين الجموع!

الوان زيتية فن معاصر 50 في 70 سم