


صورة واحدة قديمة أرسلها أخي قفزت بذاكرتي عشرين عامًا إلى الوراء، وجعلت عيناي تمطران -كعادتهما- كلما مرت بهما ذكريات ذلك الفستان الأبيض المزخرف بخيط ذهبي جميل.
بدأت المدرسة تستعد لحفل التكريم مبكرًا هذا العام، وتساءلت الطفلة -التي كنتها- في نفسها بلهفة: ماذا لو عاد أبي من سفره وشاركني فرحة التكريم؟
حين واتتني الفرصة، خطفت الهاتف من يد أمي وأخبرت أبي أني أحبه كثيرًا وأريد أن أراه قريبًا في حفل المدرسة.
مرت لحظات صمت بدت لي أبدية وأنا أنتظر الرد بشغف يشبه ترقب رؤية هلال العيد.
مسكين أبي، استصعب الرد ولكنه اضطر لمجاراة حماسي القوي، فصرف لي أملًا كاذبًا عشت معه أسبوعين من الفرحة والنشاط، ولكن الأمل الذي أهدانيه أبي لم يكن ينمو؛ بل كان يذوي كل يومٍ وينطفئ رويدًا رويدًا.
في آخر اتصال لأبي، جلست بجانب أمي بأذنين كبيرتين أنتظر سماع موعد الوصول، ولفرط حماسي لم أستطع الصبر أكثر، فحاولت خطف الهاتف هذه المرة أيضًا، إلا أن أمي هذه المرة لم تترك لي فرصة، فاستسلمت وطلبت منها برجاء أن تسأل عن الموعد، لكنها همشت سؤالي دون وعي فأنصفني أبي بعد أن سمع صوتي وأخبرها أن تبشرني بأنه قد أرسل لي فستانًا جميلًا لحضور الحفل، أدركت حينها أن "أرسلت لها فستانًا" لا تعني سوى أنه لن يأتي، ولكني لم أكن أريد الاعتراف بالأمر، فألححت عليهما بأني أريد معرفة موعد الوصول، وأخبراني أنه سيصل خلال أسبوع فقط.
عشت أسبوعًا آخر من الفرح المشوب بالقلق، حتى لم يبقَ سوى يومان ولم يصل أحد.
المدرسة كخلية نحل تستعد للحفل، وأنا أيضًا كنت خلية أخرى بمفردي، لقد حفظت أناشيد الحفل، أخبرت كل صديقاتي أن أبي سيصل ومعه فستان جميل وسيحضر معي الحفل، وحضَّرتُ آلاف الكلمات لأقولها لأبي عندما نذهب معًا إلى المدرسة، رسمت خطة السير، وقد قصرت طريق الذهاب وأطلت طريق الإياب، وأردت أن أمسكه بيدي اليمين حتى لا تغطي يده الضخمة تسريحة شعري المائلة نحو اليسار، وقررت أن أطلب من أبي عقد فُلٍ ليطوق به عنقي عند تكريمي، ولأني كنت مولعة جدًا بالحديث عن الأمر أمام الجميع؛ فقد أصبح حضور أبي الأول من نوعه هو الحدث المرتقب في المدرسة أكثر من الحفل نفسه.
تبقى يومان فقط ولم يصل أحد، فسألت أمي: "متى بيجي أبي؟"
فأجابت باستغراب: "ومن قال إن أبوك بيجي؟"
- ما بيجيش؟
- لا ما بيقدرش للأسف.
- بس هو قال لي بيجي.
- هو قصده الفستان.
- بس أني قصدته هو!.. وأجهشت بالبكاء.




أشفقت أمي علي وأخذت تخفف عني وتهدئني، ولكني كنت قد شعرت بالخيبة التي لا يمكن أن يخفف من وجعها حضن أمي أو كلماتها، فأنا أحتاج أبي، وصوت أبي، وحضن أبي.
جاء اليوم الأخير، ولم يصل الفستان بعد، فثارت ثورتي وبكيت كما لم أبكِ من قبل، الجميع ظن أني بكيت الفستان الذي لم يصل بعد، أمي أخبرتني أنه سيصل، وأخي وعدني أنه سيشتري لي فستانًا رائعًا إذا لم يصل فستاني اليوم، ولكني رفضت كل الكلمات والوعود، وعزمت على عدم حضور الحفل وأقسمت على ذلك.
استغربوا عنادي القوي وعصبيتي هذه المرة، فأنا طفلة هادئة وذكية تعرف كيف تستغل كل الفرص لتظفر بما تريد، ولكن هل كان الفستان حقًا هو كل ما أريد؟!
اليوم، وصل الفستان أخيرًا، وجاء به أخي ضاحكًا يتلمس فرحتي، ولكني خلافًا لكل التوقعات، بكيت وبصوتٍ عالٍ، بكيت أبي الذي لم يصل، بكيت الخيبة التي شعرت بها عندما تأكدت أن أبي لن يأتي، بكيت وأنا أتخيل كيف سيحضر آباء الفتيات تزين الابتسامة وجوههم ووجوههن ككل عام، بينما سيغيب أبي للمرة السادسة من سنوات دراستي، بكيت وأنا أتخيل نظرات ترقب زميلاتي لرؤية أبي، ونظرات شفقتهن التي ستحرقني فيما بعد.
وصل الفستان أخيرًا لكني لم أشعر بالسعادة أبدًا، لقد كنت أنتظر أبي ويمكنني أن أحضر التكريم بالزي المدرسي. لا يهم، لا يهم، أنا أريد أبي، والفستان ليس إلا عذرًا.
احتضنني أخي الأكبر أكثر من مرة ليزيح عني مرارة الشعور بغربة أبي، فهو أيضًا يشعر بما أشعر به، وقضى عمره يعاني مع أبي وأمي مرارة الافتقاد لعائلة كاملة، لا يمكن لنار الغربة -التي فرضت على أبي- أن توفر أحدًا في العائلة كما لم توفر بيتًا في هذه البلاد البائسة، فمعظم شباب مدينتنا (تعز) -بل وبلادنا ككل- قصدوا دول الخليج المجاورة بحثًا عن مصدر حياة أفضل لعائلاتهم، وخلفوا وراءهم زوجات يبكين كل ليلة على وسائدهن بينما يستمعن إلى أغنية "مسعود هجر."
وتركوا أيضًا أطفالًا يبحثون عن آبائهم في دراجة هوائية أو فستان، وربما يصابون فيما بعد بـ "فوبيا الغربة" مثلي.