الحارسات الصامتات

كان يومًا ذا سطوع جلي وحارق من أيام الشتاء قُبيل خمسة عشر عامًا، حين سرت في موكب نسوي نحو الشلال الوحيد في المنطقة، وقد خيم الجفاف على المنحدر، حيثما اعتدنا رؤية الشلال، ففي الشتاء لا تلتقي جبالنا بالمطر. أخذت النساء تلتمس الماء المتبقي في بركة الشلال الآفل، ناقلة ما تجمعه في الدلاء نحو البرك الصغيرة المجاورة لمنازلهن. دلفتُ أحد الكهوف الصغيرة التي تنتشر فوق البركة، كنت أبحث عن مكان أختبئ فيه لأفوز في لعبة الغميضة مع الشمس، جلست القرفصاء أراقب سماء الكهف ومحيطه خشية أن أجد حشرة تحدق بي، حينما رأيت كتابة محفورة على جداره. ودونا عن باقي الصغار في عمري كنت أجيد القراءة وأحبها، فقد سعى والدي بإصرار إلى تعليمي القراءة مبكرًا مخبرًا إياي بأن الأبواب تفتح دومًا بالكلمات؛ لذا فقد وقفت أمام ما كتب على الجدار كباب ضخم سيأخذني لعالم مغاير حال فتحه. لم أكن لأفهم ما دوِّن بشكل جلي لكنني تمكنت من حفظه لكثرة ترددي على الكهف. لقد كان ساحرًا وقد تمكن من أخذي إليه.

*****

  "إنها أرض جبلية مليئة بالصخور والرياح الجافة، لكن الحارسات الصامتات يغذينها كل يوم، كل لحظة، تتجسد آلهة عثتر في ملابسهن المزركشة. نادى الجميع طمعًا بمقابل حينما أُوقِدت الشمس، وحدهن النساء الصامتات لم يسألن، لم يسألنها شيئا! حدقن في السماء وسرن بمحاذاتها صانعات للنور، حين خارت مقاومتهن لجاذبية الأرض تسربن نحوها بشكل متساوٍ لصعودهن باتجاه النجوم، أصبحن كل شيء ولا شيء. بينما وضعت أنا في آنية لأنمو محاطة برغبة من حولي فتحولت الجذور العتيدة بداخلي إلى بونساي تم تشذيبها وتقليمها مع نباتات الزينة الأخرى، "حذار من أن تصبحي بونساي فلا ثمر للبونساي يا سنديانتي العزيزة" 

حين قرأت هذه الكلمات بقيت أرددها كي لا أصير بونساي، رغم جهلي معنى ذلك. بمرور الزمن أدركت قطعًا أنني لا أريد أن أنمو مقيدة بإناء؛ لذا أكتب للحارسات الصامتات رسالة كلما امتصتني الأرض نحو الأسفل. أكتب لأتذكر أن الحارسات كن المدى الآمن لهذا العالم حين تلاشين في سبيلي، في سبيلنا جميعًا.


فصل بلا نهاية على شاهد بلا قبر "إلى الحارسات الصامتات" 

في برزخي الخاص أطوف واقعة 

بين ما يجب أن أصبحه وما أنا عليه

تتحاشاني النجوم

وأتحاشى الحديث معكن.. 

حين أفقت في السادسة على لون تضحياتكن 

صرت أرقبها عن كثب 

خلت أنني عضو في دربكن المضيء. 

شاهدت سرابا لأَلَقي 

هكذا 

حرت بين انتظاري لأكون معكن وبين ارتعاش عديد من الرايات الخافقة بالأبيض من حولي..

دونت حكايا الصغيرات حول تراتيلكن الخفية حتى لا ننسى..

وعدت أن أعود من جديد لأنير لمعاناتكن قبسًا بين الجميع ومع الجميع.

حين عدت بعد عقد ونصف عدت خاوية

أخبر نفسي أنها كانت مجرد أسطورة بلهاء! لا وجود لهاته النساء.

أردت أن أتخلص من العبء الذي خلفه اعتقادي الجازم بالفشل في الوصول إليكن، وأن أسكت كل الأمل الذي ساقني لحِملِكن الذي أسقطته بين غمرات وهول ما تقاسيه رفيقاتكن في كل منزل ارتحلت إليه

وكل ضحكة مشحوذة بالخوف رأيتها في قنانيهن الزجاجية 

وكل تقصفات ضفائرهن وارتعاشات مصائرهن.

كلما غزلت إحداهن قصة ملونة

أوقفتها في المنتصف الطفلة الزاهدة عن سرد التفاصيل

حتى لا تتماهى في الثغرات

فتفصح عن رعب قد ينهي تشبثها بجذوركن ويغرقها في زهور الريحان والصلوات والعويل.. 

تبكين كل صيف من أجل هذه الأرض وحين يتآكل السوط أمام ناظركن تمتلئن بالأمل بي، بنا! 

ثم ما نلبث أن نغزله لهم من جديد. 

لهذا أشيح بناظري عن البنفسجي والأزرق كلما رأيت إحداهن، فجيوبي قد امتلأت ولا أجد قماشًا للف المزيد!

بينما يتكدسن حولي أصلي لأجل أن أصاب بالعمى والصمم 

لكني كلما وجدت فروعًا جديدة تغني التراتيل ذاتها دونما كلل 

أزداد استبصارًا وأرى خلف الجدران والمكاتب والمباني والجبال 

أسمعهن في منامي حتى تخر قواي 

لم أستطع أن أقف بينهن 

لكني 

أود لو أحطم السلسلة التي تقيد أندرو ميدا! 

وجدته الحل الوحيد لكي أصنع المزيد من السلالم صعودًا وحتى لا تتلاشين في الكهف فتختفي التمائم على رموشهن

وحتى لا أموت مع كل موت

أنتظر كما تنتظرن معجزة تعيد لنا أغنية الربيع حيث لا تبقى السنديان على ضفاف الأنهار في بلاد بلا أنهار 

في لحظه يقين أردت أن أكتب شيئا على هذا الجدار،

أفرغت كل جيوبي،

خرجت جموع منهن متتاليات متدافعات في طابور صامت، 

كان النور يخفت ولا أجد أي طبشور، لكنهن حملنني حتى السقف.

تناقلن عصا غليظة دبقة تفوح بالبلازما، أشعلنها بالنيران! 

كنت خائرة لأكذب أن النيران قد تشتغل في عصا دبقة.

بصقن عليها! 

وحين وصلت العصا إلي؛ كان عليّ أن أدونهن على السقف

"لا سبيل للعودة، سيحملنا الصدى، سنغني حتى يصم الخرس آذانهم" 

كتبت ولم أجد بدَّا من أن أرسم لهن أوتارًا جديدة، حتى وإن كانت لا ترن إلا في مسامعي وحدي. 

لعلي أنام قليلًا

الحارسات الصامتات: عمل فني رقمي.