كانت زيارات جدتي دائمًا دافئة لدرجة أنها تبقينا بلا معاطف لبقية أيام الأسبوع، عدا هذه الزيارة فقد انتزعتنا من هالة الأمان و غرستنا بعيدًا، حيث بدا ملء عينيها أسى و استفهامات وزعتها في صدورنا جميعا لنمضي بهذا الصقيع إلى الأبد..
غادرت جدتي مع مغيب الشمس ولحقتها نظراتي حتى اختفى ظلها، لم تلتفت مرة أخيرة، رغم استجدائي بأن تفعل ربما شعرت بذلك وتغاضت وربما لا.. لا أدري ولا أشعر حقا حتى رائحتها العالقة في صدري ويدي إثر وداعها الأخير لم يُسكن زمهرير السؤال المرير (هل سأقابلها ثانية).
هُجرنا جميعا من ديارنا تركنا أرواحنا وغادرنا نبحث عن مكان آمن.. وجدناه نعم! لكنه كان بعيدًا.. بعيدًا جدًا عن أحلامنا المركونة في أرفف منازلنا وحكاياتنا المطوية بين الكتب العتيقة!
بعيدا عن أيامنا السعيدة التي قضيناها برفقة أصدقائنا وتساقطت منا تحت المصابيح المنطفئة والأشجار العارية والأرصفة الممتدة بلا لافتة تسمح لنا بالركون.
عن أصواتنا وقهقهاتنا ووقع أقدامنا التي يتردد صداها من المدافئ المفتوحة وأفنية المنازل المهجورة والشوارع التي باتت لا تشبه شوارعنا..
وجدنا المكان الآمن لكني حتى اللحظة لم أجد دفء جدتي!
مضت سبع سنوات عجاف وقلبي يرتجف، قيل بأن جدتي ماتت خلال هذه السنوات التي أمضيتها أركض لأسابق الحزن قبل أن يصل إلى قلبها، لالتقط الفراغ الذي قد يحيطها، لأقفل النوافذ حتى لا يتسرب الجزع _الذي يمتد من ارتباكي وأنا أمضي أيامي بعيدًا عن أرضنا _ إليها،
يشبه السلام ملامح جدتي والأرض! وغيابها عني فاقم اليأس الذي أحاول النجاة منه كل هذه السنوات بثقلها وتعقيداتها وقلقها.
تشبه ملامح جدتي النور الذي يتسلل صباحًا من الأبواب الخشبية المشرعة لبيتها دائمًا لتستقبلنا نحن وكل المخذولين من أحفادها لكنهم يقولون إنها قد أوصدت، فيما علينا من اللحظة أن نواري خذلاننا.
تشبه المواساة كف جدتي التي لطالما ربتت على أكتافنا المنهكة ومسحت بها التنازلات التي تسقط من أرواحنا و أعيننا، و انتشلتنا من بين معارك دامية مضرجين يأسا بالأفكار السوداوية، فقد كانت تعي مقدار حسرة شبابنا التي تمرغت في أرض تنهشها الحرب، تعي أننا سنعيش أسىً طويلا و فقدًا كبيرًا سنحلم و نُكسر، سنقف و نسقط مرارا و تكرارا سننحني نتحسس أحلامنا المدفونة و لا نجدها!
قيل فعلًا بأن جدتي ماتت وأرضها جفت وأشجارها، الخوخ والبن سقمت!
لكني أثق بأن ثمة كذبات كبيرة أعيشها، كذبة الحرب والشتات والتشرد وموت جدتي.