في السادسة صباحًا، فتحت كهربة عينيها بانزعاج على صوت نباح الكلاب، وصوت قادم من بعيد جدا للمكينة التي تعمل عليها البئر الوحيدة في القرية، انقلبت على الجانب الآخر وهي تتأفف: "ما قد شبعت نوم" أتت كلماتها مع صوت والدتها التي تصعد الدرج نحو السطح، حيث تنام العائلة في الصيف. كانت مهمة والدتها كل صباح أن تفيق مع أذان الفجر لتعد المعصوب والقهوة وتقدم التمر معه لزوجها ووالده قبل أن ينطلقا لأعمالهما خارج القرية، حينما وصلت للسطح، كانت كهربة تتظاهر بأنها ما زالت نائمة، وكانت قد انقطعت أنفاس الأم. فلجأت إلى سحب وسادة لتجلس عليها، على يسار "كهربة". نادت بصوتين: كهربة، كهربة. لم تجبها. واكتفت بتأمل ضفيرة ابنتها التي أصبحت في عين الجميع شابة عليها أن تتعلم شؤون البيت والأرض من الآن، ربما يأتي أحد ما يطرق في أي مساء باب بيت والدها طالبًا إياها للزواج، ماذا ستقول النساء على "كهربة" وعلى أمها؟ لم تعلمها الأصول مثلًا أو كهربة "بائرة" ولا تحب عمل البيت؟ كان هذا ما يجول في بال الأم وهي تتأمل ضفيرة ابنتها الطويلة والسميكة، قبل أن تعود وتلح عليها بالنهوض لتساعدها فيما تبقى من أعمال البيت وإطعام الأخوة الصغار والمواشي.
استجابت كهربة لإلحاح الأم واستجمعت نفسها ونهضت تلف "المصون" على شعرها، أين أبي؟ ألم يعدني بالأمس أنه سيحضر لي دفترًا وأقلام حبر ملونة، مثل أقلام فطيم بنت خالتي قبول؟ ردت الأم: ذهب مع جدك ليحلا نزاع الأرض، ولكن ما حاجتك بالدفتر والقلم؟ ماذا ستصبحين؟ بدلًا من تعلم الكتابة اهتمي بالبيت أو اخرجي مع بنات أعمامك لرعية الأغنام. لكن كهربة كانت قد ضجرت من حديث والدتها الذي لا تمل من قراءته على رأسها كل يوم، وأخذت في النزول من السطح إلى الحوش المسقوف جزء منه بالسعف، حيث تجتمع نساء العائلة لتناول شاي الصباح والتفنن في التباهي بإنجاز أعمالهن مبكرًا. دخلت كهربة عليهن فقالت زوجة عمها الأكبر بسخرية: "وأخيرًا جاءت كهربة أول من ينام وآخر من يستيقظ، والله حين أسموها كهربة علمت أننا لن نرى الكهرباء" تبعت سخرية العمة ضحكة من جميع الجالسات بمن فيهن كهربة نفسها.
جرت العادة أن يسمي الآباء مواليدهم بأسماء توحي عن أمانيهم التي يترقبونها، ففي القرية ذاتها هناك امرأة اسمها "وحدة"، سميت بهذا الاسم تيمنًا بتوحد شطري البلاد، وهو ما حدث فيما بعد. وبنفس الطريقة اختار والد كهربة لها هذا الاسم، أملًا بإمداد قريتهم غرب محافظة شبوة بالتيار الكهربائي. كانت كهربة بالرغم من غرابة اسمها لا تشعر بالخجل منه، بل تفخر به بين الفتيات في قريتها، لطالما اعتبرته حديث مقارنة بالأسماء التقليدية لصديقاتها، وبعض الأحيان تسأل نفسها عن ذلك الشيء الذي سيجلب لهم الضوء ويجعلهم يتخلون عن مصابيح الجاز. وهكذا تستمر بالتفكير بالكهرباء وتخرج من ذلك الحديث بنتيجة دائمة، "لا شك أنه شيء جميل مثلي". وهذا ما تخاطب به الأخريات حين يسخرن من اسمها الذي يبدو غريبًا ويلفت الانتباه كثيرًا.
أخذت كهربة أملها بإمداد قريتها بالتيار الكهربائي إلى دفاترها، تتساءل مرات ومرات، تصف خيالها حول الكهرباء، رتبت حماسها بدون ملل وبخط جميل على الورق رغم فداحة الأخطاء الإملائية، فهي لم تتعلم في المدرسة القراءة والكتابة، بل اجتهادًا من إحدى زوجات أعمامها التي تبرعت لكهربة بتعليمها، كانت المدرسة الوحيدة في منطقة في حدود القرية التي بينها وبين قبيلة كهربة ثأر.
عشية الليلة السابقة كان قد تنازع والدها ورجل آخر من القبيلة التي بينهم وإياها ثأر، بعد إطلاق النار على سيارة والد كهربة، جعلت الأب يستعد في صباح اليوم التالي للبس السلاح والتأكد من وجود الذخيرة الكافية في جعبته، لينطلق إلى عمله، إلا أن الرجل الذي أطلق عليه النار البارحة قد ترصد له مرة أخرى، ما أجبر والد كهربة بالرد عليه ليرديه قتيلًا، وهو الأمر الذي سعى أن يتجنبه، لإيمانه أن الثأر لعنة لا شفاء منها.
كانت صدمة بالنسبة للقبيلة، فهي لا تريد أن تخسر والد كهربة، خاصة أنها تراه قتل ليدافع عن نفسه، لذلك دفعت به للخروج من القرية بعد ضغط كبير حماية له من القتل، فهو الرجل الذي لن تغامر به القرية لكونه أكثرهم وجاهة واتزانًا. لم تكن كهربة تعلم أنها تقترب من الحلم الذي تنتظره منذ أن أدركت نفسها، وأن الحلم بينها وبينه مصيبة كهذه، ظلت متحمسة للخروج وهي تسمع الكبار يتحدثون عن خطة المغادرة، حتى تولت قبيلة أمها تهريب عائلتها الصغيرة إلى قرية شرق المحافظة، وهي المرة الأولى التي تخرج فيها كهربة خارج قريتها.
في طريقهم بعد الفجر هربًا من الثأر، لاحظت الأضواء في الطرق التي سارت عليها، لم يستوعب عقلها بعد أن هذه هي الكهرباء التي لطالما حلمت بها.
في السادسة صباحاً، فتحت كهربة عينيها بانزعاج على صوت نباح الكلاب، وصوت قادم من بعيد جداَ للمكينة التي تعمل عليها البئر الوحيدة في القرية، انقلبت على الجنب الآخر وهي تتأفف: لم أشبع نوم بعد. أتت كلماتها مع صوت والدتها التي تصعد مع الدرج نحو السطح، حيث تنام العائلة في الصيف. كانت مهمة والدتها كل صباح أن تفيق مع أذان الفجر لتعد المعصوب والقهوة وتقدم التمر معه لزوجها ووالده قبل أن ينطلقا لأعمالهما خارج القرية حين وصلت للسطح حيث مازالت كهربة تمثل على أمها أنها ما زالت نائمة، كانت قد انقطعت أنفاس الأم. لجأت لسحب وسادة لتجلس عليها، على يسار "كهربة". نادت بصوتين: كهربة، كهربة. لم تجبها. واكتفت بتأمل ضفيرة ابنتها التي أصبحت في عين الجميع شابة عليها أن تتعلم شؤون البيت والأرض من الآن، ربما يأتي أحد ما يطرق في أي مساء باب بيت والدها طالباً إيها للزواج، ماذا سيقلن النساء على "كهربة" وعلى أمها؟ لم تعلمها الأصول مثلاً أو كهربة "بائرة" ولا تحب عمل البيت؟ كان هذا ما يجول في بال الأم وهي تتأمل ضفيرة ابنتها الطويلة والسميكة، قبل أن تعود وتلح عليها بالنهوض لتساعدها فيما تبقى من أعمال البيت واطعام الأخوة الصغار والمواشي.
استجابت كهربة لإلحاح الأم استجمعت نفسها ونهضت تلف "المصون" على شعرها، أين أبي؟ ألم يعدني بالأمس أنه سيحضر لي دفتر وأقلام حبر ملونة، مثل أقلام فطيم بنت خالتي قبول؟ ردت الأم: ذهب مع جدك ليحلا نزاع الأرض، ولكن ما حاجتك بالدفتر والقلم ماذا ستصبحين، بدلاً من تعلم الكتابة اهتمي بالبيت أو اخرجي مع بنات اعمامك لرعية الأغنام. لكن كهربة كانت قد ضجرت من حديث والدتها الذي لا تمل من قراءته على رأسها كل يوم، واخذت بالنزول من السطح إلى الحوش المسقوف جزء منه بالسعف، حيث يجتمعن نساء العائلة لتناول شاي الصباح والتفنن في اظهار التفاخر بين بعضهن البعض، يا من أنجزت أعمالها مبكراً. دخلت كهربة عليهن فقالت زوجة عمها الأكبر بسخرية: وأخيراً جاءت كهربة أول من ينام وآخر من يستيقظ، والله حين اسموها كهربة علمت أننا لن نرى الكهرباء، تبعت سخرية العمة ضحكة من جميع الجالسات بمن فيهن كهربة نفسها.
جرت العادة أن يسمي الآباء مواليدهم بأسماء توحي عن أمانيهم التي يترقبونها، ففي القرية ذاتها هناك امرأة اسمها "وحدة"، سميت بهذا الاسم تيمناً بتوحد شطري البلاد، وهو ما حدث فيما بعد. وبنفس الطريقة أختار والد كهربة لها هذا الاسم أملاً بربط قريتهم غرب محافظة شبوة بالتيار الكهربائي. كانت كهربة على غرابة اسمها، إلا أنها لا تشعر بالخجل منه بل تفخر به بين الفتيات في قريتها، لطالما اعتبرته حديث مقارنة بالأسماء التقليدية لصديقاتها، فبعض الأحيان تسأل نفسها عن ذلك الشيء الذي سيجلب لهم الضوء ويجعلهم يتخلون عن مصابيح الجاز. وهكذا تستمر بالتفكير بالكهرباء وتخرج من ذلك الحديث بنتيجة دائمة، "لا شك أنه شيء جميل مثلي". وهذا ما تخاطب به الأخريات حين يسخرن من اسمها الذي يبدو غريباً ويلفت الانتباه كثيراً.
أخذت كهربة أملها بربط قريتها بالتيار الكهربائي إلى دفاترها، تتساءل مرات ومرات تصف خيالها حول الكهرباء، رتبت حماسها بدون ملل وبخط جميل على الورق رغم فداحة الأخطاء الإملائية، فهي لم تتعلم في المدرسة القراءة والكتابة، بل اجتهاداُ من إحدى زوجات أعمامها تبرعت لكهربة بتعليمها، كانت المدرسة الوحيدة في المنطقة في حدود القرية التي بينها وبين قبيلة كهربة ثأر.
عشية الليلة السابقة كان قد تنازع والدها ورجل آخر من القبيلة التي بينهم وإياها ثأر، بعد إطلاق النار على سيارة والد كهربة، جعلت الأب يستعد في صباح اليوم التالي للبس السلاح والتأكد من وجود الذخيرة الكافية في جعبته، لينطلق إلى عمله، إلا أن الرجل الذي أطلق عليه النار البارحة قد ترصد له مرة أخرى، ما أجبر والد كهربة بالرد عليه ليرديه قتيلاً وهو الأمر الذي سعى أن يتجنبه، لإيمانه أن الثأر لعنة لا شفاء منها.
كانت صدمة بالنسبة للقبيلة، فهي لا تريد أن تخسر والد كهربة، خاصة أنها تراه قتل ليدافع عن نفسه، لذلك دفعت به للخروج من القرية بعد ضغط كبير حماية له من القتل، فهو الرجل الذي لن تغامر به القرية لكونه أكثرهم وجاهة واتزان. لم تكن كهربة تعلم أنها تقترب من الحلم الذي تنتظره منذ أن أدركت نفسها، وأن الحلم بينها وبينه مصيبة كهذه، ظلت متحمسة للخروج وهي تسمع الكبار يتحدثون عن خطة المغادرة، حتى تولت قبيلة أمها تهريب عائلتها الصغيرة إلى قرية شرق المحافظة وهي المرة الأولى التي تخرج فيها كهربة خارج قريتها.
في طريقهم بعد الفجر هرباً من الثأر، لاحظت الأضواء في الطرق التي سارت عليها، لم يستوعب عقلها بعد أن هذه الكهرباء التي تحلم بها. حين أخذت تنتبه للأمر كان والدها قد بدأ ينبهها، "هذه هي الكهرباء" سندخل الآن المدينة ستتعجبين، يقولون إنها لا شيء أمام مدن العالم. سألته كهرباء بحماس: المنزل الذي سنسكن فيه به كهرباء؟ أجاب ربما، وسنعيش هناك كثيراً قد لا يحل الأمر بسهولة ولن يكون هناك حل أصلاً.
استقرت كهربة مع أسرتها في قرية فيها كهرباء، وكما هي العادة أخذت تكتب في دفترها تأملت التلفاز كشيء جديد، وتذكرت كيف أن أهل القرية الجديدة اكرموهم بمنزل مؤثث، لم يعدن بحاجة للسقاية حتى يجلبن الماء هي وأمها، وأصبحت لديهم أجهزة الكترونية كالثلاجة والمروحة و بدأت تتعلم كيف تستخدمهن، وهذا يثير الدهشة لديها كثيراً. لكن لكمة كبيرة في حلقها لم تختفي، فالكهرباء التي تحلم بها ها قد رأتها لكن روح والدها مهددة بالخطر.
بكت وهي تعبر أن لا شيء يكتمل، تبلل دفترها لكن ليس بإمكانها تغيير شيء، أصبحت لديها حياة مختلفة تماماً وصديقات جدد ومخاوف كبيرة، من أن يقتل والدها وتعود مرة أخرى لقريتها حيث لا كهرباء في قريتها على وجه التحديد.
نظرت من النافذة لوالدها وهو ذاهب لعمله الجديد في مصنع للثلج في المدينة التي تبعد عن القرية أقل من 25 دقيقة، شعرت بقلق لكنها تغلبت عليه. ماذا أن قتلوا والدي؟ ظل هذا الخوف ملازمها طوال النهار. سحبت نفسها لحجر كبير بجانب منزلهم الجديد تنتظره، وجوفها يحترق من الخوف، حل الليل لم يأتي والدها لكن أتى عمها مع بعض رجال القرية الجديدة، مسكت على بطنها شعرت أن شيء ما حدث. حضنها عمها وهو يبكي: "محمد قتل" تابعوه من مكان لآخر وقتلوه.
هوت إلى الأرض وسقطت، وقبل أن تصل إلى الأرض شعرت أن ضوء عميق انطفأ داخلها، كانت الغرفة المضيئة بتيار الكهرباء قد تحولت لقبو مظلم ومرعب، أحست بالذنب وشعرت أن فرحتها بالمكان الجديد لعنة حلت عليها، فالضوء الذي كانت تستمد منه الحياة قد انطفأ ولا ضوء آخر يعادله.