ظل إلهي

الله موجود في الحرب والعتمة أكثر.

نراه في الدموع التي تقف في وسط أعيننا.. في ذهولنا وخوفنا.

في وحدتنا التي نعيشها.

في كل هذا البؤس.

هو موجود ووحدنا من نراه..

وحدنا من نلمس هذا الظل الكبير.

**

كل ليلة كنت أنتظر القذيفة التي ستمر عبر النافذة وتنفجر في سريري وتبعثر جسدي المتكوم على جدران الغرفة؛ لذا كنت أتعمد النوم على حافة السرير وأحيانا أسفله لأضمن سقوطا وجثة مكتملة.

خلف مقود السيارة كنت دوما أتساءل، من أين ستمر الرصاصة الطائشة؟ وهل ستفجر رأسي أم ستخترق إحدى عيني؟ وكنت أشعر بالغثيان حين أفكر أن أحدهم قد يصور رأسي المتناثر وأصاب بنوبة بكاء هيسترية وأنا أرى طيف أمي المفزوع وهي تشاهد ذلك.

كان احتمال انفجار لغم بي مخيفا وأنا أبدو كدمية سقطت كل أطرافها ومازالت عيناها مفتوحتين.

كل العبارات التي سمعتها من ضحايا، مر الموت من بين أضلعهم، التصقت برأسي وعاشت معي كرائحة الدم والأشلاء التي تسكن ذاكرتي مكتسبة شبابا دائما وكأنها لا تنوي أن تختفي أو تموت.

**

التقيت بروضة في أحد مستشفيات الحديدة الساحلية، كانت فتاة سمراء في بداية العشرينات وبكامل الحزن والخوف الذي قد يصيب ويقتل، أخبرتني الفتاة جملة واحدة عما حدث ومنحتني مشهد الحادث مكتملا:

 (كان أخي مرميا على الأرض وصدره مفتوح مثل سمكة مشوية).

 وبمجرد انتهاء جملتها شاهدت كل شيء.

لم أستطع تمالك أعصابي أكثر رأيت جسد ابني النحيل على الأرض وانغرست عظام صدره في ذاكرتي كملف جديد في تاريخ الصور البشعة التي شاهدتها أو التي رواها لي ناجون.

غادرت المستشفى وأنا أشعر أن إيماني الكامل قد محاه جسد هذا الصبي الذي قضى في انفجار لغم الحافلة العائدة من مديرية صغيرة في مدينة الحديدة اليمنية باتجاه مديرية أخرى هي المخا.

في المنزل كان علي فور عودتي أن آخذ حماما يخفف بؤس هذا اليوم الكئيب الذي التصق بجدران قلبي.

تحت قطرات الماء المندفعة ببطء كنت أقوم بالضغط على صدري بأصابع متشنجة، بحثا عن قلبي لإزاحة ما التحم به دون جدوى، كان رأسي وقلبي وإيماني المفقود يبحثون عن إله منصف.. يد خفية تربت علينا وسط كل هذه الدماء.

لم يكن هذا مطمئنا، بل بدا لي كمؤشر خطر باتجاه ضعفي، ربما كان فقط مكانا جيدا للبكاء والاختفاء عن أنظار أمي التي تضمن لها ابتسامتي المصطنعة إمكانية الاستمرار في الحياة وتوقف الحرب.

طوال الليل ظل وجه الصبية العشرينية معي لا يفارقني، خطورة وضعها وإصابة العمود الفقري جعلتني أشعر بالذنب كوني أملك عمودا فقريا سليما، رغم أنى لم أقم بزراعة ذلك اللغم ولست حتى سائق الحافلة الذي قام بطمأنتهم بالعودة إلى ديارهم سالمين.

كانت الحديدة في مارس ٢٠١٧م تبدو في منافسة شديدة للحصول على لقب المدينة الأكثر دموية، غارات جوية يومية، حوادث، انفجار، ألغام، اعتقالات تعسفية.

لا توجد خيارات للهرب، فقط جميعنا نقف في طابور الانتظار ونلتزم بالدور القادم إجباريا (متفرج أو ضحية أو ناجي وحيد).

مرت ثلاثة أيام على الحادث قررت فيها العودة لزيارة الفتاة مرة أخرى.

في ممر المستشفى الضيق التقيت أخيها الذي أخبرني أن المستشفى قام بإيقاف أدوية روضة المكلفة جدا حتى سداد دفعة أولية للفاتورة.

لم تكن هذه المرة الأولى التي أواجه فيها تصرفًا مهينًا ومخيبًا كهذا، 

ما زلت أتذكر ضحايا سجن الزيدية الذين لم تسعهم ثلاجات المدينة كاملة وتم وضعهم في شاحنة تبريد للدجاج، التي ما لبثت أن تعطلت أيضا ومنحت أجسادهم المظلومة نهاية حزينة.

خلال رحلة بحثي عن منقذ ما يساعد روضة وعائلتها كنت أحاول أن ألمح الله من مكان بعيد...

وبعد مرور ليلة واحدة فقط حصلت على قيمة الفاتورة بمساندة صديقتين من عالم الملائكة في وقت كان فيه العمل الخيري مشوبا بالشكوك والريبة.

في المستشفى أعطيت شقيق روضة المبلغ مرفقا بسندات التحويل، خوفا من وقوعي في أي شبهة، ومع ذلك حاول الرجل إعطائي مبلغًا ماليًا، ولكني رفضت وغادرت المستشفى وقد ظننت أني استطعت إقناعه بأني لم أفعل ذلك للحصول على شيء.

    في المساء وجدت فاتورة هاتفي مسددة بمبلغ سبعة آلاف ريال يمني ورسالة منه تشرح أن هذه على الأقل فاتورة سداد للاتصالات التي أجريتها للحصول على مساعدة لهم.

 ماذا سأفعل بسبعة آلاف ريال (11 دولار) بدا لي المبلغ كبيرا جدا، حتى لو قضيته في اتصالات غرامية لسبع سنوات قادمة.

في اليوم التالي كان هناك حادث كئيب آخر لقارب مهاجرين صوماليين تم قصف قاربهم أثناء هجرتهم غير الشرعية عبر السواحل اليمنية، هذا الحادث يجلب لذاكرتي دائما رائحة الدماء الممزوجة بالثياب المبللة.

 في المستشفى بالكاد كنت أقف عاجزة ولم أقوَ على القيام بشيء..

أطراف مبتورة.. دماء في كل مكان.. نحيب وبكاء وبحث عن إخوة وأصدقاء مفقودين

كان المشهد قاسيا ومخيفا "مواجهة الرصاص والغرق في لحظة واحدة" ومن ذهول الضحايا وفزعهم أدركت أن لا أحد يمكنه وصف ما حدث.

  منذ الصباح الباكر كنت أتنقل للقاء الضحايا والتحقق من أعداد الناجين بين ثلاث مستشفيات، وحين وصلت للمستشفى الرابع عصرا، كان الضحايا، وأغلبهن سيدات، قد تم توزيعهن في غرف رقود مختلفة.

في وسط ذهولي وعجزي، أشارت إحدى الفتيات الناجيات نحو هاتفي وهي تنطق بعربية مكسَّرة "اتصال" كانت تبكي وتتحدث بلغة لم أستطع فهمها، لكني استوعبت حينها أنها تريد التواصل مع عائلتها.

منحتها الهاتف وأنا أفكر في مبلغ الفاتورة الذي كنت أتساءل عن كيفية الخلاص منه، و أدركت للحظة أنه جاء لأجلهن وأن لا مكان للصدف الغبية في هذه الحياة حتى وإن كانت حربا ظالمة.

أثناء اتصالاتهم القصيرة كانت محاولاتي في تهدئة روعهم وحزنهم فاشلة فقد كنت خائفة مثلهن، وحيدة وضائعة وأبحث عن يد الله أو ظله.

كان ذلك بالنسبة لي.. لقلبي لعقلي للشك واليقين اللذين يفتتان رأسي شيئا لا يصدق.. لقد وجدت الله أخيرا.. بعد أن أضعته أعواما عديدة

وأجزم أني ما زلت لا أفهم الحقيقة كاملة.. بل جزءا منها.

وهذا الظل الإلهي لن أراه إلا إذا غطى الحب والعفو ذاكرتي كلها.

الرقص للنجاة: عن رحلة القلق، الشك، الأمل واليقين عمل فني تجريدي بواسطة ألوان الأكريليك ومادة الريزن. مقاس اللوحة 90*60