أتذكر تلك المشاهد عندما تبكي تبدأ هرولة النقائض المهيبة على تلك التي تُدعى بلا جسد ...
يجمع الشتات وجهها الطفولي الذي تحتضنه خصلاتها من كلتا الجوانب، ترتمي بعضها على عينيها العسليتين المتوهجة ببعض الدموع ونظرة الانكسار تلك، وخيبة الأمل التي تختبئ بين أجفانها المتورمة، خديها يملك احمرارًا ذهبيا غريبا، لتصل إلى مكمن الكيان، شفتيها دقيقة المرسم، رجفة بهوت غطت كل ملامحها....
وبعد مرور عشرة سنوات لقلبي، ها أنا أقف هنا في تلك الحديقة في بلد غريب، تسمى الحديقة المائية، توقفت بي الذاكرة عندما كنت في بلدي الكبير الذي لم يسع روحي، كنت:
أترك نفسي بين قواعدي في الاستبداد وبين قلبي الذي تجتاحه الفطرة، لكي تنتهي كل تلك المشاهد من ذاكرتي عائدة بي إلى لحظتي تلك،
يأكل الندم أطرافي، وتتمحور بي أمي التي كانت دائما ما تقول لي:
كيف سنكون بكل هذا الضياع!
ومن بين تلعثم الدموع في خديها تقول:
كيف هذا؟
وكأنها تستنجد بي دون جدوى، تخبط أنثى تحاول العيش ببعض الحياة لا أكثر، تريد أن تبقي على بقايا نبضٍ روحي لعلها تصنع للفرح ركائز أخر كخبز التنور، وكم يخذلنا عجز الأمهات، وكم تميتنا الحياة آلاف المرات، في كل لحظة تصبح أمي عاجزة عن القيام بواجب الأمومة الفطري، الذي وكل إليها من رقائق السماء!
لكي تطبع أيامها على بقايا روحي الصغيرة بعمر السادسة، جسدي النحيل الذي يعلن لنبضي أنه يريد بعض الطفولة، احمرار خدي، قسوة يدي بسبب البيئة القاسية وبسبب طفولتي الباردة، تجمد أطرافي، وتجمد أوساخ المشي حافيا، أصبح يقبع على جلدي الطفولي بكل إكراه، شعري المجعد بلونه الأسود القاتم، لا أعلم متى آخر مرة اغتسلت، ملابسي الرثة التي تملؤها البقع المتسخة،
عائد إلى بيتي الصغير بكل تلك الأثقال على روحي البائس، بعد عراك طويل مع أغنامي التي تؤنس ضباب تفكيري، وعراكٍ مع أمثالي من الأطفال، أعود ببعض الجروح على رأسي ووجهي، لكي أتلقى من أمي ضربا جديدا، فقط عندما ترى جروحا على وجهي، وكأنها تكمل بقية اللوحة الزخرفية على جبيني،
آخذ طعامي لكي أخلد إلى فراشي الذي يعج بالحشرات الصغيرة، تسمى (قُمَّلا) لأننا نمتلك أغناما ودوابا، تختبئ هذه الحشرات بين اللحاف والوسائد، لكي أخوض حربا أخرى معها حتى يأخذني النوم بأحلامي الطفولية،
ورغم أن كل شيء حولي، لحافي الرث وطعامي الذي لا أعلم كيف مذاقه، إلا أن معدتي تتضور خالية وتريد الغذاء لكي أكمل معاركي غدًا أمام الأعداء الصغار.
وفي صباح يومي التالي، تكون الشمس مشرقة مع الضباب الذي يغطي كل شيء حولي وفوقي كأنه يلون بقايا الليل، تصل إلي رائحة طعام أمي مع دخان التنور الذي يشع برائحته في قلبي، وبرد الندى الذي على مشتل أمي في سطح بيتنا، أخذت الماء الحار لكي أغسل وجهي ويدي وأستعد للطعام، وأعيد النظر إلى مباهج الحياة بأحلامي الصغيرة. كنت أغوص بوجع التفكير الذي يأخذ مني جمال طفولتي، كيف لأمي أن تعيش كل هذا السهاد، كيف تقف بها الليالي لكي ترتمي على كاهلها، وما هذا الشتات، كيف سأعرف مساري وأمي لا تعلم لمَ أتت بي إلى الكون البائس..
إلى اليوم أعيش تلك اللحظة حتى أحرفي تتلعثم بحبرها بيني وبين لغتها الخاصة، لكي تخترق كل السبل، مرت ليالٍ لكي أفهم تلك النظرة، هل الخوف أم الشجن الذي جعل نظرتها ترتجف وهي تنظر إلي، عجزت عن وصف الغرابة في أن تتمايل على وجنتيها، ومع كل نسمة ندى يأخذني العالم إليكِ، وتتعمق بي سنيني الراحلة إلى ذكراكِ،
انا ابن أمي التي لا أعرف اسمها.......
كبرت وأصبحت اليوم أنا هو أنا، أكتب للوجود بعضي، ومن بين أحضان أمي الدافئة وكأنها قطعة جنتي على مرسى الحياة، قد بلغت الثلاثين من عمري، شاب بمكتمل حكايتي وقد عصرت بي الذكريات وتلاطمت بي مباهج الحزن الباهي، كل المتناقضات التي عشتها كانت رفيقي حتى ابتعثت من جديد لكي أصل إلى ختم كل هذا وذاك، إنه الحب، ولا سواه علاج كل الألم، أوجاع أمي المزركشة، التي أطلقت على حياتها عنوان ابنة الشمس، لحرقة الشتات الذي كان خنجرا قائما على ناصية عمرها... نطقت حروفي البكماء، وتمايلات جذوري بين الحزن وكفيها،
حتى وصلت إلى الرحيل بعيدا عن كل تلك الذكريات، لكي أنعم بحب أمي هنا، وتشتمل الحياة بها وترتوي بي الأوطان وأكتب لها اسما يليق بتلك الحفاوة السماوية، فقط لكي تعيش أمي ابنة الشمس.....