


رشَّةُ ملحٍ، دقيقٌ، ماءٌ وأيدٍ.
أيدٍ باردة، مُترددة، أيدٍ متلاشية لا مرئية.
دُقّ البابُ بشكلٍ مُباغت، تركتُ عجن الخُبز، أركضُ، أضعُ قبضتي على الباب، فُتحَ البابُ أخيرًا.
آه إنها أمي، أمي التي صنعت لي يدًا تشبهُ يداها.
"صباحُ الخير
مرحبًا أو دعنا نقول لا مرحبًا بنصٍ لن يقرأهُ أحد.
كنتُ قد سمّيتُ الليالي تلكَ بالهجينة، ولكنّني نسيتُ الصباحات كيف تبدو بعد ليالٍ أضناها رحيقُ السهر.
مُجددًا صباح الخير ياشمس، صباح الخير وأنا أنتظرُ أمي لتنهي إشعال الحطب،أصنعُ الشاي بالحليب على مهلٍ، وأضعُ حبّاتِ الهيل كأنّها قاربُ نجاةٍ لأفكارنا المتباينة .
فتحتُ النافذة، راقبتُ تلك الشُجيرات المتمايلة ، نطَّ عصفورٌ بالقرب من مُستقرّي، أحضرتُ البُرّ ونثرتهُ علّه يهوّن عليّ تناثري، صوتهُ، إِنّهُ يسمعني حين أكتب، ولكن تجّتاحهُ آياتِ سورةِ البقرة لتَنّثرَّ الطمأنينةَ حول غشائي الصدري.
أحضرتُ القصب، كان لونهُ أصفرًا كلونِ الشمس التي كنتُ أرسمها في الصف الأولِ الابتدائي، أعطيتها لتلك النّعاجِ البائساتِ التي يسيطرُ عليها الهلع من كُسر قشة، اقتربت هي بدورها لتؤكل أُضّحيةً للعيد، كنتُ أتأمّل فقط فلم أتحرك قيد أنمله، أتأمّل تلك الطقوس التي لن أراها في المدينة.
والآن هل لي بأن أعود لطهو الخبز؟!
وداعًا"
قرأتُ هذا النص صبيحة اليوم، ولكن ثمّة شيءٌ ناقصٌ، مُعتم الحواس، شيءٌ مفقود.
السؤال :
_ لِمَ تُهمّشُ تلك الأيادّي التي تعجنُ رغيف الوطن؟ التي تحتضّنُ طفلاً تائه، تُرفعُ للسماء، و تُربّتُ على كتفِ صديق، تلك الأيادّي التي تطهو، تعمل، تكتب، ترسم، تحملُ أكياسَ الخُضار، تُطعِم قطًا شاردًا و يتكىءُ عليها رأسكَ المثقل أحيانًا؟!
كان هناك فنجانُ شايٍ تحتضنهُ أنامل فاترة، إنها تُجنّد لتكون عسكري مُحنّك ذات خذلان، من فجوةِ الفئرانِ تكتمُ سرّها تلكَ الأوطان قد خانت موتاها، وتلك الليالي اكتفت من نجومها، يتسربُ من شرنقتها سديمٌ عتيّقٌ يهوي ليكونَ شمسًا هاربة.
تُرثى الأرض بقطراتِ مطرٍ، ويموتُ البحر على شاطئهِ في مدٍّ وجَزر، يُؤخذُ عددُ الوفياتِ على أنها مسألة رياضية، ويكتفي الرياضيات بحل مسائلهِ بإجابةِ "مالانهاية" .
كانت أقصى أمنياتي ألّا تُجبرني أمي على الإفطار، أن تسمحَ لي باللعب عصرًا في الحديقة، تشتري لي دراجةً هوائية وترسمُ المعلمة على يدي نجمة.
كيف تعقد الأمر؟!
كم قُرصًا تُراهُ يكفي ليسدَّ جوعَ الوطن؟ تحملُ أعينٌ غائرة تلك الأم التي فقدت ولدها، تتبادل معي النكات وكنتُ ألوذ إلى أحاديثها المُسلّية، بيد أن نبرة صوتها تُخبّىء الكثير من الحزن، كانت أُمًّا لشهيدٍ كما يُقال.
ها هي ذي يدٌ أخرى نَهمةٌ تبتلعُ الأجساد، يدٌ تبطش، تقتل، وينسى صاحبها ولكن..
إن نسي هو، هل تنسى تلك الأيادي ملامح الاحتضار ورائحة العطب؟
ففي كل مرةٍ أخبرُ نفسي
بعيدًا عن كون
لا شيء يحدثُ كما خُطط لهُ
ثمة شيءٌ عالقٌ في حنجرتي
سربُ عبراتٍ متكدّسة
أو ربما صرخةُ إغاثةٍ مُتأخرة
لعلَّ صوتي يُبتلع
إنني أبهتُ أبهتُ بغزارة
كُلما أطلتُ الصمت
صمتُ ماذا؟
صمتُ الجدرانِ الواقفة
وأرضيةِ الأسفلتِ الباردة
صمتُ الضجيجِ الذي يتكرر
داخلَ قوقعة رأسي
والكلمات التي تتحشرجُ
بحلقي الجاف.
صمتُ الأيادي المُتجعدة
الأيادي المنسية
والأخرى المتعفنة
صمتُ الخطوط، البصمات والخمس الأصابع
صمتُ طلاءِ الأظافر
اللمسات الحانية
والقبضة القوية التي تُخبرك بأنك لست وحيدًا.




والآن في ساعةٍ متأخرةٍ من النهار، حيثُ اللاشمس، حيثُ الطيور تحطُّ على صفوانِ أشجارِ المريمر، والغيوم ملبّدةٌ دون وجهه.
حيثُ التيه والإستمرار، حيث أننا لا نمشي ولا نركبُ السيارات ولا الدراجات الهوائية وما من زحامٍ يجتاحُ المدينة.
ماذا لو أنّي توقفتُ بُرهةً لأضع بعضًا من المُرطب على يدا جدّي؟؟
أترى يداهُ تَنسى أنهُ جزَّ العُشب وحرثَ الأرضَ طوالَ السنين الماضية؟
هكذا يبقى الأثر، فكلٌ يحملُ أثرهُ بيداه،وكلٌ يرثي أثرهُ بطريقةٍ تُنسيةِ ماهية الأمس، دعنا لا ننظرُ إلى العالمِ ككرةٍ أرضيةٍ ليس لها أطراف، ليكن العالمُ يدًا تُقضم أظافرهُ رويدًا رويدًا وكأنه مصاب “بالأوتوفاجيا”، كثيرًا ما أشعرُ وكأننا تلك الجُزيئات المختزلة داخل كبسولةٍ مُحكمة الإغلاق، إننا نسبحُ في معدة هذا الكون الفسيح، ولا نعلمُ أننا الدواء.
كانت معلمةُ الأحياء تسألُ:
_تُرى لِم الطيورُ تطير؟
كُنّا نُجيبُ دونًا عن أيّ تردّد :
_لأن لديها أجنحة.
فتُجيبُ بدورها تلك المعلمة الوديعة:
_ بل لأن لديها أكياسًا هوائية أكبر من الإنسان.
واليوم أجد أن تلك الأكياس يملكها الإنسان ُحجمًا ومضمونًا بل وأكبر سعةً من الطير ولكنّها محشوة بأطنانٍ من الرصاص الخالص.
لِمَ الرصاص دونًا عن الهواء؟
لأنه يملكُ عقلًا متفجرًا ذلك الإنسان المسكين.
يحملُ أيدٍ عوضًا عن الريش؛ لذلك هو لا يطير.
_تقول غيمة نحن كائنات السماء، وُلدنا من زخات البخار، من صلبِ الشمس ونعودُ إليها، نحن كُتل مائية هشة الملامح ننسابُ خلفَ الرياح ونُحبُّ أهل الأرض.
_يجيبُ ذلك الإنسان: نحن كائناتُ التُراب، لا نطيرُ، ونركض خلف الرغيف، تَسكُننا هواجسُ الخوف ولكننا لا نستسلم، نملكُ عقلًا ثقيلًا بملامحٍ قلبية، ونُحب أهل السماء.
…………
بتلك الحماسة تركض فتاة الحقول، تبتلعها مروجُ مرتفعاتِ إب الخضراء، وترسل صلواتها إلى السماء، ترتدي قبعتها القشية وفستانها بأكمامٍ منقوشة، وعلى ظفيرتيها السوداوين تضع الشريطة.
ماذا لو كان بإمكاننا الركض، نحنُ فتيات الأربعة والعشرون ربيعًا؟!
أظن أن الركض طريقة الأرضيين للطيران.
………
نصيَّ العزيز :
"لا بُد أن
أحتسيني في الليلِ كجرعةٍ مسائية
ككوبِ شايٍ بارد
وقطعة بسكويتٍ تالفة
أحتسيني كما لو كنتُ سأتلاشى
سأتلاشى تحت أنظارِ جسدي
أحتسيني كي لا أبهت
كي لا أضعف
كي لا أتراخى
أحتسيني كي أُعيد تُخمة روحي
كون لا وعاءَ
لا وعاءَ كجسديِ سيحويني
أحتسيّني لأني قلبٌ وعقل
وقليلٌ مني
أحتسيني كي أمتصَّ الغضبَ
الذي لهُ بأن يدويني
كي أبلعَ كلماتي لمعدتي
ولا أصمت
أحتسيني كي لا أضمى مني
عامًا، شهرًا ولا حتى يومًا
أحتسيني لأني فارغٌ مني
أحتسيني بيدي النحيلتين هاتين
كوني امرأةٌ
كوني نصٌ مبتورٌ
بلا أيدٍ "