


على مر السنين يحدث أن يتهاوى الإنسان قطعة قطعة، لم يبقَ منه إلا شخصًا سكن روحه، وكتب عنه كلامًا لا يقبل التأويل، لا يمكن أن يُحرف يومًا، فقط لقد تغير مجرى الحياة لدى الكثير، التنازل عن الحياةِ للآخرين أو الهروب إلى بلدٍ آخر يحدث أحيانًا إيمانًا واحتسابًا لقانون البقاء من أجل الحياة..
أن تجد نفسك هاربًا من صوت الانتماءات السياسية، الخوف والخسارة، أخبار الحرب والقتل والجرائم، لتجد نفسك بالصدفة غارقًا في قلب كالبحر لا حواف له ولا طرف، لم أعرف من أين وكيف سأبحر فيه، ولا أعلم متى موسم الرياح هنا، ومن أي اتجاه ستأتي؟ وفي كل مرة أنوي بها الخروج رهبة، أرجع من نفس الطريق رغبة، لكني لمرة واحدة قررت أن أبحر فأنا أمتلك المجاديف، لأجد نفسي مرة أخرى غارقة في ألم اللجوء.
تقدم إلى اللجوء
عندما كانت الأوضاع في البلد غير مستقرة، من غلاء المعيشة، التطرف والإرهاب وغياب الخدمات وانهيار العملة وتدني مستوى التعليم، لم يكن بالإمكان العيش بسلام أبدًا، لكنه كان الملاذ الآمن لخوفي، وللكثير من الأشياء التي اعتادت بقاءه هنا كوشم لا تستطيع منه الخلاص.
بالحقيقة سمعت كثيرًا أن هناك من شباب الوطن تقدموا إلى اللجوء خارج البلد؛ بحثًا عن الحياة. في البداية كنت لا أعلم عن اللجوء شيء، كان الأمر بالنسبة لي عاديًا، وأقول في نفسي بحثًا عن الرزق والسعي، وستنتظرهم حياة جميلة...
في تمام الساعة الثامنة مساءً في بيتنا الصغير المصمم على طراز القرية القديمة، وأنا أتكئ على فراشي، كانت النافذة شبه مفتوحة بفعل شدة الرياح الباردة، القمر كان زاهيًا، لكنها ليلة مظلمة بالنسبة لي، ربما لأني مظلمة من الداخل!، أعددت لنفسي فنجانًا من القهوة أكثرت فيه جوز الطيب؛ كي استطيع النوم، لكني لم أنم بعد.. لقد انشق صدري.. ولا أعرف أي جزءٍ من قلبي خرج... لقد قدم اللجوء...

في تلك الساعة كرهت كل ساعات العالم، كل التذاكر وكل المطارات، والطائرات.. وكل ما يساعد الإنسان على السفر.. تمنيت لو أني مت قبل الحرب القذرة هذه التي رحلت بشباب البلد إلى بلدان أخرى، وبقي من بعدهم يصارع الموت حنينًا.
وحشة الوجود دونك
ليس سهلًا انطفاء أضواء المدينة، ومن كان سراج ونور يرحل ببريقه إلى بلد آخر، لم أتخيل كيف لهذه البلد أن تتنازل عن أنوارها للغرباء، رغم حاجتها لهم في شدة أزماتها؟ وتبقينا نحن في ظلامها لاجئين إلى الأبد.
ورغم الشمس والقمر، إلا إني لم ارَ نورهما، فكم هي مظلمة هذه البلاد دونك، وكم هي موحشة الأيام في غيابك، وكأن الحياة ولدت وماتت بعينك، نحن نشعر بك الدفء في زمهرير الشتاء، ونسمات باردة وسط صيف مشمس، فغريب أنت كيف تكون ثلجًا ونارًا في آنٍ واحد؟ كنت إنارة الشوارع وأنس المكان، صوت العصافير والأغاني، وأفراح المدن وأعياد القرى..
ويقينًا وحقًا فقد خيم الحزن في غيابك على شروق الشمس من وراء جبال القرية، فلم يعد الشروق بلونه الذهبي فأصبح أسود ممزوج بشيء من الليل.
فحزنت هذهِ البلد لرحيلك، وحزينة أنا أكثر وألمح الحزن في كل شيء حتى في تعرجات طريق قريتك الجميلة، في أماكنك والأرصفة، مرورك هنا، وبصماتك هناك، فلربما قد أحبتك الأشياء هنا مثلي بصمت قاتل، فأي حب هذا يقتل الداخل ولا تبوح به الكلمات لتسمعها الحرب فتخمد؟ ثم تعتذر لي ولك ولهم وتتعهد بأن لا تجبر أحد على اللجوء، فيفترق الأحبة والأهل كرهًا.
في غيابك أدركت أن كل من غادروا البلد ماتوا، وبقي أحبتهم من بعدهم غرباء في أوطانهم، وأدركت أن القلوب وحدها تجيد اجتياز المسافات، أدركت أن البقاء في الوطن أكبر من الحرب والسلام والسفر ومن كل شيء، أتدري لماذا البقاء أكبر من كل شيء؟ فقط لأن ليس هناك أكبر من قلوب تستطيع أن ترى بعضها في حضن أمها، ورغم البعد لقد كنت حاضرًا بكل قوة تسكن عينين واسعتين، تدمع من الحرب مرة ومن حال البلد مرة ومن لجوئك ألف مرة.




ليس حلمًا
من شرفة منزلي وأنا أحتسي بعض القهوة رأيتك تحاول سرقة كأس القهوة من يدي، وبعد أن منعتك من أخذه سقطت باكيًا تقول: كم اشتقت لقهوة بلدي، اشتقت لدخانها ورائحتها، آآآه لو أستطيع الرجوع إلى الوطن لأشرب كأسًا من القهوة ثم أعود.
ركضت مسرعة لإعداد القهوة التقليدية، وعندما نضجت تذكرت بأني كنت أحلم ووجدتك غائبًا، ومع طيوف الخيال لم يبقَ من القهوة قطرة، ولا أعلم من الذي ذهب إلى الآخر، هل أنت أتيت فشربت القهوة، أم أنا جئت بالقهوة إليك؟ أم أنه ليس حلمًا؟
أغادر ثم أذهب لأتكئ على وسادتي أحاول أن أخلو من الفوضى ومنك، لأتذكر ألف مرة من أنا قبل مارس/ آذار 2020، ولم أتذكر شيء، لقد كنت بالنسبة لي كيوم الولادة؛ تاريخًا لا يمكنني الرجوع قبله، وكانت الحرب التي تسببت في لجوئك كشهادة وفاة لا يمكنني العيش بعدها، وأنت الذي دونك ضاقت الأرض ذرعًا، ولولاك لما اتسعت، ولا أشرقت شمسها ولا أنار قمرها ليلها.. لكنك لاجئ...

مكان اللجوء
لجأت في روح غريبة في وطنها، أخذت الإقامة الأبدية من أول يوم، فأصبحت هذه الروح وطنك ومنفاك، واتخذت عيناك راية، وسلامها وجودك، وصوتك أمنها، فما برحت إلا أن تكون الدفء الذي تمضي أيامها من دونك صقيعًا إلى الأبد. وحتى قبل أن تقدم للجوء كنت لاجئ فيها.. في حضرة قانون لا يقبل اللاجئين للحظة.
أن تلجأ إليّ فأنا وطنك، فأعطني الحق كي أكتب عنك حد التداعي والإفراط، أدب عفيف ممزوجًا بالسلام بعيدًا عن هذهِ الحرب، غير أنه لا يوجد في حوزتي إلا ورقة واحدة يُكتب عليها قصائد غزل الحب باسمك ونوره، وعلى الوجه الأخر ألم الحرب وظلامها، ثم إنك قصيدة جبارة في قلب كل كتاب وورقة.. فأنت الوطن كتابة وشعرًا...وما نحنُ إلا أقلام محتلة تكتبك رغمًا، فنحن نستوطن لا نغزو، وعادةً ما يصبح المستوطن قتيل.
وقبل اللجوء كانت الروح في وطنها باردة والجسد صقيعًا، كانت موغلة بالوحدة، ككفن على رفوف الوداع، ورقة على الأرض بين أوراق الخريف المعصف، حتى أتيت.. وكيف أتيت؟
ثم إنك أتيت فأصبحت روحي ملوثة بالحب، مريضة بك حد الموت، ثم إني مت بك عدد ما ماتت الشهور وعادت مجددًا في كل عام جديد، عدد موت الساعات والأيام والليالي وصيحات الأطفال ودموع النساء.
وكنت لاجئ في حنايا روح ترى فيك الأمان وسط شرار الحرب، تتمنى لو أن ترجع صغيرًا في المهد؛ لتتربى فيها من أول يوم، فالحب أكبر من الميلاد والعمر معًا… ثم إنك ميلاد كل شيء جميل، ميلاد اللحظات الجميلة، ميلاد الصباح والمساء، ميلاد الشتاء والربيع.. وحتى ميلاد الحرب.
وأنت لاجئ في جوفي دخلت وأنت آمن، وعجزت أن أقول اذهب فأنت الطليق، روح تحاول أن تعلم من أنت، لكنها عبثًا تحاول لا قدرة لمحتلٍ ولا خيار إلا إنها تحتويك...
وأنت لاجئ ذليل، قوي في الانتصار، فبعد أن طلبت اللجوء في هذه الروح تركتها أمام خيارين، أن تكون أسيرة أو محتلة، فكانت الأسيرة والمحتلة والقتيلة معًا...
وأنت لاجئ لا أرى من حركة العيون الصغيرة إلا الخطوط المتشابكة وهي تقراء عن أخبار الحرب، وعندما قررت أن أخوض معركة مع النسيان وسط مشقة الحرب التي تنسيك أي شيء جميل بقيت تلك الخطوط حاضرة، وكم هي مرهقة بقدر ما هي ممتعة، فالحرب لم تنتهِ بعد، ولم يكن النصر حليف لأحد من الأطراف المتنازعة، بل كان النصر نصر عينيك القاتلتين...
وأنت لاجئ في جوف أنثى كتبت عنك القصائد الجميلة كي تتنفسك كل روح تقرؤك بعد أن يطوينا التراب أمواتًا، فالقصائد تعيش أكثر مما يعيش الناس، وإنك تستحق الخلود... مثل القصائد تمامًا.
ورغم بقائي في وطني الجريح فإني أملك مساحة أمان أكبر من مساحة العالم، وإن روحي مكان صغير في جغرافيته، كبير ليتسعك متى عدت إليه
فسلام على وطني وسلام عليك وسلام على اللاجئين جميعًا.