


سماء ملبدة بغيومٍ رمادية متفرقة، رياح تحرك أغصان أشجار متنوعة هنا وهناك..
ملامح امرأة في الأربعين من عمرها ما زالت تحتفظ بجسدٍ مشدود وملامح حادة صاخبة، عينان واسعتان بنيتي اللون يخترقهما سواد يزيدهما ألقًا وبريقًا لامعًا، خدود تميل للحمرة، شعرها الأسود الطويل يتدلى على كتفيها العاريتين، ترتدي ثوبًا زهريًا باهتًا يخفي ملامح جسدها المتعب.
تدور حول نفسها وتمشي ذهابًا وإيابًا في أرض رطبة طينية
تشتم رائحة الأرض وتتنفس بعمق، وتنفث نفسها وكأنها تطلق همومها للهواء لتلتقطها السماء، توجه أنظارها للسماء الواسعة، في عناق روحاني بهيج.
تتأمل قطرات المطر الخفيفة وهي تتساقط قطرةً تليها قطرة كأنما تُقبّل جسدها بسكينة تامة.
امرأة كـ (بدور) تشبه الكثير من النساء اللواتي يتركهن أزواجهن لأجل البحث عن مصدر رزق أفضل في الغربة.
واقع العديد من الأسر اليمنية. هذه هي السنة الخامسة، وصلاح زوج بدور لم يتمكن من زيارة أسرته الصغيرة: باسم، وبسام، وبسمة التي لم تتجاوز السادسة من عمرها.
هذه الأجواء المطيرة الهادئة تمنح هذه العاشقة الحنين إلى حضن خالد الذي يجعلها تشعر بالدفء والأمان.
انجذب خالد، الذي لم يعش حالة حب من قبل، لهذه المرأة دون سواها؛ ربما لأنه عانى كثيرًا في صغره، فقد نشأ بدون أم، فوجد في بدور أمانًا وحنانًا افتقدهما في صغره، كما أنها امرأة جامعية وابنة المدينة التي يحلم بها أغلب رجال القرية.
تعود لمنزلها وحبيبها يعشعش في رأسها، تتخيله في كل لحظة، كمراهقة صغيرة لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، لتتفاجأ بوجود حبيبها هنا، يقوم بمساعدة بسام في مذاكرة دروسه.
تلمحه بعينان تلمعان بحب صارخ: "أريد عناقك الآن!"
لكنها تسلم عليه بهدوء وخجل، وتذهب للمطبخ لتصنع الشاي بالنعناع.
يخبر خالد بسام: "سأذهب للحمام وأعود، وقد قمت بكتابة الحلول لهذه المسائل."
قلبه يخفق بشدة متعطشًا لعناقٍ حار.
يتسلل على أطراف أصابعه للمطبخ، يشتم رائحة دخان الحطب الخفيفة التي تتصاعد من الصعد*، يشد بدور نحوه بسرعة ليضمها إليه بقوة.
تهمس بدور في أذنه: "يا مجنون! ابني في الداخل وابنتي الصغيرة نائمة."
خالد: "لا يهمني أحد. فقط دعينا نعيش لحظات حبنا، أنا لم أعرف الحب إلا بكِ ولا وجود لمعنى حياتي إلا بحبكِ لي، وأقولها لكِ، لا أريد تجربة هذه المشاعر اللذيذة مع أحد سواكِ، فلا تحرميني من ذلك أرجوكِ."
تشعر بدور براحة تامة وسكينة، إلا أن قلبها يخفق خوفًا على عائلتها، وتطلب منه أن يعود للغرفة قبل أن يشعر ابنها بشيء.
فيقول: "حسنًا بدور، كما تريدين."
يعود خالد للغرفة قائلًا: "ها بسام، هل انتهيت من حل المسائل أم لا؟"
يجيبه بسام: "نعم أستاذ، انظر!"




تقاطعهما بدور لتقدم صينية الشاي بالنعناع وهو يتفحصها بنظرات مجنونة هائمة، يطلب منها قطعة خبز يغمسها مع الشاي.
تذهب للمطبخ فيلحق خلفها ليغسل يداه، وما إن يدخل ويغلق الباب بهدوء، يحتضنها مباشرة دون مقدمات، تبتسم بدور وتتنهد تنهيدة عميقة، يزيح عنها وشاح رأسها، يتأمل تفاصيل وجهها الذي كان ممتلئًا بالتعب والحسرة على أيام عمرها المهدورة تغير فجأة وامتلأ بالحب والسعادة المفرطة.
يتلمس جديلة شعرها ببطء ويمسكها بكلتا يديه يشتم رائحتها، يمررها على وجنتيه مصدرًا تنهيدة طويلة ويتساءل: "متى تتطلقين من زوجك فهو لا يقدر إنسانة بمثل جمالك؟ لم أعد أطيق صبرًا!"
صوت بسام آتٍ من الغرفة: "هاتي لي خبزة أيضًا"، فيقطع لحظاتهما الحميمة.
وقبل أن يخرج خالد يخبرها أنه يريد لقاءها عند شجرة السدر الكبيرة في الوادي.
هناك حيث يخوضان مغامرة حب محرمة قد تودي بحياتهما للموت أو الفضيحة في قرية "الطنب" المعروفة بأنها قرية متشددة.
تتلفت بدور يمنة ويسرة وكأنها تبحث عن شيءٍ أضاعته.
تبحث إذا ما كان هناك غريب يقتحم خلوتها، تشعر بأنها مخنوقة، تفتح أزرار ثوبها وتتنفس بعمق شديد، تنهيدة طويلة، تضع وشاح شعرها جانبًا، تسدل ظفائر شعرها الأسود الطويل الذي يشبه كثيرًا عينيها المكحلتين بالسواد، تصب كأسين من الشاي الأحمر وتزينهما بوريقات النعناع المنعشة كعادتها، تنتظر حبيبها وهي تتأمل السماء بعيون تلمع بالحب.
سماءٌ كالحة بالسواد.
نجوم متناثرة كحبات لؤلؤ.
يتسلل عشيقها إلى محرابهما المقدس
لا صوت في المكان سوى هبات رياحٍ خفيفة تعانق أوراق الأشجار المترامية هنا وهناك، المدرجات الزراعية تمتد على مرمى البصر.
رائحة الطبيعة تجعل مزاجك هادئًا بشكل تلقائي.
لا صخب.
لا ضجيج
صوت الهدوء هو السائد في مساء العشاق.
همساتٌ لا تُسمع، ونظرات حب جنونية تتفجر من عينيهما، أحضان دافئة وقُبلٌ مسروقة هنا وهناك..
صوت أغنية يأتي من بعيد:
"سرقت النوم من داخل عيوني وخليت السهر فيها مؤبد، أقاسي الشوق ما تغمض جفوني ونار الصبر في قلبي توقد."
يتكور خالد كجنين في بطن أمه، يضع رأسه على فخذ بدور ويبكي كطفل صغير، تحتضنه بدور لتشعره بالطمأنينة: "أنا معك ولن أتركك، سأطلب الطلاق لأعيش معك حياتي للأبد. تعلم جيدًا أنني منحته حياتي وكل ما أملك، امرأة مثلي كان يجب أن تكون خلف كرسي تدير عملها، أو على أقل القليل كنت أستطيع فتح مشروعي الصغير بذهبي الذي منحته إياه قبل سفره."
يقاطعها خالد: "لا بأس، فلا فائدة من الندم على ما فات، سأعوضك عن كل شيء صدقيني. ثقي بي، فهو لا يستحق امرأة مثلك، كما أن غيابه عنك كل هذه المدة موضع شك، فأظنه قد تزوج وتركك وترك البلد بأكملها، فمن يطيق العيش في هكذا وضع؟!"
فجأة
صوت ما يشبه الصدى يردد: "أستغفر الله العظيم وأتوب إليه" وهو يقترب شيئًا فشيئًا.
تتعرق بدور ويضطرب جسدها، تتلوى على فراشها فتصحو قليلًا قليلًا من قيلولتها المفاجئة شاكرة الصدى المفزع: "يا إلهي! بدونك كنت سأظل نائمة، لقد أيقظتني من أجمل حلم يراود خيالي."
يظل خالد ذلك الرجل اللطيف الذي يداعب مخيلتها كلما غفلت عيناها.
"كم أتمنى أن تصبح حقيقة، فلا أظن أن صلاح سيعود لحياته في قريته التي تفتقد أبسط الخدمات! يجب أن أذهب للمنزل فقد تأخر الوقت"، تتحدث مع نفسها بصوت مرتفع.
تنظر للسماء بلونها البرتقالي فالشمس تغرب. بخطى سريعة تسوق أغنامها وبقرتين، وتجر خيبتها وما زال تفاصيل الحلم يدور في رأسها.
تتذكر بدور طموحها في افتتاح جمعية تهتم بشؤون النساء، وتنظر لنفسها نظرة ألم وندم، فقد ضحت بذلك لأجل الزواج تاركة طموحاتها في قبر النساء البائسات.
من امرأة تعيش في المدينة أنهت دراسة الشريعة والقانون، إلى الزواج برجل ظنت أنه سيكون الداعم لها لتحقيق طموحاتها في قريته الصغيرة. إلا أن كل ذلك تحطم بعد إنجاب الأطفال وموت أم زوجها التي تركت لها الأغنام والبقرات لتهتم بها.
تصل بدور إلى بيتها الذي تشعر فيه بالغربة، تقتات ذكرياتها وأمل تتلمسه ولكن دون جدوى، فكل ما تحصل عليه من زوجها حوالة مالية بالكاد تغطي احتياجاتها وصغارها.
الكهرباء مقطوعة كما هي العادة، درجة الحرارة تفوق الأربعين درجة، تتصبب عرقًا وتفتح عيناها ببطءٍ شديد. الشمس قد اقتحمت غرفة نومها، وصوت أمها يناديها: "بدور، أصبحت الساعة العاشرة، متى ستذهبين للجامعة؟!"
تتنفس بدور الصعداء وتنط من على سريرها فرحاً: وووو
"ماما تعالي اشتي أبوس راسك" تصرخ بدور، تجري أمها قائلة: "بسم الله عليك يا بنتي، فيك شي؟"
"لا لا بس لا تزوجوني للقرية ولا تعطي اهتمام لكلام جاراتك اللي يصجونا متى بتتزوج بدور في كل مرة تشوفيهن. ماما شفت كابوس، لا لا، مش كابوس واحد، قولي كوابيس، والآن مبسوطة أن كل هذا طلع حلم بسبب كلام الناس. أرجوكم يا ماما خلوني أكمل دراستي وأحقق أحلامي والزواج مش كل شيء بالعالم."، تجيبها بدور.
تضحك أم بدور وتخبرها: "شكله قد عندك رهاب اجتماعي من الضغط النفسي اللي تعانيه، يلا تعالي افطري وكلميني عن الكوابيس اللي شفتيهن"
*الصعد: هو تنور يُصنع من الفخار ويستخدم في القرى غالبًا.